الشاعر طفل العالم، ولا يقدر العالم على القفز نحو المستحيل إلا بجسارة طفل وشجاعة طفل ونزق طفل وحيوية طفل ونعومة طفل، هذا هو الشاعر، وهذا هو عبد الرحمن الأبنودى، طفل العالم المشاغب المنفعل، المستهتر بانضباط والمندفع باتزان، المخلوق من عرق الأرض وملحها، تراه فتدرك أن مصر غالبا ما تختار، أن تحل فى أحد أبنائها فتأخذ منهم رحيق الحياة، وتمنحهم محبة الناس ليظلوا فيها خالدين، ولأن «من ذاق عرف.. ومن عرف اغترف» نهل الأبنودى من نبع المحبة الرائق فى قلب مصر العميق، فأصبح مصهورا فى حبها، مندمجا فى تضاريسها، مفتونا بحواريها وقراها وفقرائها وشعرائها وأناشيدها ومواويلها وملاحمها وملامحها، ويظل مفتونا بوطن مشتهى، يسير إليه أينما سار، ويراها حقيقة بينما يراها الآخرون وهما، فيتغنى بها ولها قائلا:
حبيبتى كل ما بنسى تفكرنى الحاجات بيكى
أئنك تدمعك عينى
كأنى مش هغنيكى
دمايا متستهلش تكون كحلة ليلة لعينيكى
وأنا الدرويش..
أنا السابح بمسبحتى
ومبخرتى وتوب الخيش
أغنى لك وأمول لك مواويلك
ماتسمعنيش ولا تشوفينيش
ومش لازم مادام عايشة مادمت بعيش
أنا الجرح اللى فى جبينك
أنا الخنجر فى شريانك
وأنا اللقمة فى إيد طفلك
أنا قبرك وأكفانك وأنا الشمعايا
فى حفلك أنا الجاهل لكن بأقرا وبفهم غاية النظرة
أنا دارك وأنا أهلك
وأنا وردك وأنا نسلك
أنا رغيفك وفرانه
وحطب النار وزيتونك
وزتانه أنا القاطف
وأنا العصار وإسلامك وقرآنه
وقلبى منشد الأذكار
أنا العابد..
أنا الزاهد أنا اللى يحب مايلومنيش
ما الحياة إلا بضعة اختيارات، وقد اختار الأبنودى أن يقع مختارا فى الغواية، غواية الحب وغواية الوطن وغواية الشعر، مثله مثل كبار شعراء الإنسانية، يعرفون أن الحياة غواية كبيرة، ومع هذا يغرقون فيها على أمل اكتشاف أعماقها، والنهل من معين أسرارها، قالها أحد الشعراء قديما «ومن عجب كيف أخدع عامدا» وقالها الأبنودى أيضا فى أغنيته الشهيرة «أنا كل ما أقول التوبة يا بوى ترمينى المقادير»، وهو بتلك الأغنية يصف رحلته فى الحياة ويسرد تاريخه ومستقبله فى كلمات بسيطة، تحمل الكثير من المعانى العميقة.
وأنا كل ما قول التوبه يا بوى ترمينى المقادير يا عين المقادير
لم تخدع الأبنودى أبدا، لكنه قرأ «لعبة الحياة» مبكرا، فتعامى عن سذاجتها، واشترك مختارا فى «اللعبة»، لعله يصل فيها إلى ما لم يصل إليه أحد، وفى طريقه سار الأبنودى لا يعبأ بأحد ولا يكترث كثيرا لمدح أو قدح، هو يعرف طريقه جيدا ولا يسير إلا فيه، ولا يعبر إلا عما بداخله من آلام وآمال، يندفع بكامل طاقته نحو الفكرة والمعنى والحلم، يلومه الكثيرون فيدركون بعد زمن أنه كان يرى أبعد مما يرون، لكن الكبر يتملكهم فيظلوا على كبرهم عاكفين، يرى «المقادير» مقدرة سلفا، لأنه يعلم أن ما يتحكم فى البشر عادة متكررة، حب، طموح، غيرة، حسد، شره، كراهية، أنانية بضعة خصال إنسانية نراها فى كل البشر، وطبيعى أن يتماثل رد الفعل إذا ما كان الفعل واحدا، وطبيعى أيضا أن يفطن صاحب «القلب الأخضرانى» إلى هذا الأمر المفضوح، فيقرر أن ينساب مع الحياة وتفاصيلها، ولا يتوب عن المضى فيها حتى آخر رمق، محاولا أن يقول لها، ها أنا ذا.
وحشانى عيونه السودة يابوى ومدوبنى الحنين يا عين
الناس فى العادة يمشون فى الحياة يقودهم «طموح» أو «حلم» أو «رغبة» أو «هدف»، كل إنسان يسير خلف غاية اختارها لنفسه، لكن الشعراء يسيرون خلف «الحنين»، وتلك هى المعضلة، فلا يكون الحنين إلا لشىء من الماضى البعيد، ولا يعنى هذا السير أن الشعراء مرتبطون بالماضى أو أنهم مأسورون بما فات، لكن غالبا ما يحنون إلى «المثال» فى كل شىء، فى الوطن والحبيبة والقصيدة على حد سواء، يريدون أن تصل البشرية إلى الكمال الدائم، ولهذا ترى غالبيتهم يميلون إلى الاختلاف الدائم، ليس من باب «خالف تعرف»، وإنما من باب «خالف تكتمل»، وهكذا كان الأبنودى، لا يرضى أبدا عن وضع قائم، وإن رضى فتأكد من أنه يتخذ من هذا الرضا «استراحة محارب» فقط لا غير. متغرب والليالى يا بوى مش سايبانى فى حالى يا عين وما دمنا قد ذكرنا الحنين فطبيعى أن نذكر الغربة، والغربة التى يعيشها الأبنودى لا تعنى الابتعاد عن الأرض أو الوطن أو الأهل، فمصر كلها وطنه وأهله وأرضه، لكن أقسى أنواع الغربة، هى أن تجد نفسك وسط قلوب خاوية استأنست بخوائها، وأغلقت نفسها على نفسها، وللأسف كثيرا ما نقابل هذه القلوب فى حياتنا كل يوم، خاصة هذه الأيام التى صار الخواء فيها سمة أساسية وصارت «الفوارغ» تملأ حياتنا.
القلب الأخضرانى يا بوى دبلت فيه الأمانى يا عين
يقولون أن الأبنودى «مريض» ويقول الأبنودى نفسه أنه مريض، لكنى لا أصدق هذه الأقاويل أبدا، فكيف يمرض صاحب «القلب الأخضرانى» الذى وإن «دبلت فيه الأمانى» فإنه لا يذبل أبدا، وكيف يمرض من بنى لنفسه فى قلب مصرى «مصطبة» و«مقعد» و«راكية شاى» وكيف يمرض من آمن بشباب مصر ونهارها الدائم، وكيف يمرض من شكل بإبداعه أجمل علامات «صحة الوطن» وعافيته؟
يا رموش قتاله وجارحه يا بوى وعيون نيمانة وسارحة ياعين
ولأن فى قلبه المحبة الدائمة، ولأنه لا يريد من العالم سوى ما يريده الطفل من حلوى ولعب وضحك وابتسام، يتأثر الأبنودى بما لا يتأثر به غيره، فيغضب إذا ما أساء البعض فهمه، ويحزن إذا ما «غمزه» أحد بكلمة أو بنظرة، ففى قلبه الخير والمحبة للجميع، ولا ينتظر من أحد أن يبادله.. يكون مثله، لكنه حينما يرى الكراهية المجانية والحقد المجانى والمزايدة المجانية، خاصة إذا أتت ممن يدعون أنهم مثقفون أو مبدعون أو ثوريون، الذين يتمادون فى المراهقة الثقافية دون حساب، ودون أن يسألوا أنفسهم كيف يستقيم البيت أن تهدم السقف، وكيف ندرك معنى الوطن دون من هم مثل «الأبنودى» أديكى عمرى بحاله يا بوى وادينى انتى الفرحة ياعين منذ عشرات السنين صدح عبد الحليم حافظ بكلمات الأبنودى «أنا كل ما أقول التوبة»، وفيها دعا الأبنودى دعوة واحدة وحيدة، وتمنى أمنية عزيزة هى «الفرحة»، وقد يعيش الإنسان عمره كله طالبا شيئا ولا يحققه، لكن الأبنودى عاش وفرح وحزن وتألم وتألق، عاش الخال «عبد الرحمن الأبنودى» 75 عاما نال ما نال من التقدير والتكدير، وكان فى كل وقت لا يطلب سوى الفرحة التى كانت كثيرا ما تغيب، بسبب ما نراه فى هذا الوطن «العصيب» فصعب على من يشعر بالوطن كأنه قطعة منه، أن يستمتع بالحياة ويعيش فى «الفرحة»، وهو يرى الوطن متألما، وبرغم كل هذا، استطاع الأبنودى أن يكتب ويبدع ليمنحنا تلك «الفرحة» المشتهاة.
موضوعات متعلقة :
- السيسى يجرى اتصالاً هاتفيًا بزوجة الأبنودى لتقديم واجب العزاء
- بالفيديو.. آخر ما قاله عبد الرحمن الأبنودى عن "السيسى وقناة السويس والمصريين".. الشاعر يحلل شخصية الرئيس فى 4 سمات.. ويطالب المصريين بالحفاظ على "أرض الكنانة".. ويوجه 3 رسائل للشعب قبل الرحيل
- محافظ الإسماعيلية: صلاة الجنازة على "الأبنودى" بمسجد الهيئة بجبل مريم
- بعد وفاة شاعر الشعب ننشر نص مقال الأستاذ هيكل عن الأبنودى: عبدالرحمن شراع على النيل.. شاعر عاش وسط الجماهير وهى تحاول بالثورة أن تصنع مستقبلا..لا يغنى للمستقبل من بعيد وإنما ينشد من وسط الجموع وبلغتها
- انهيار محمد منير بعد وفاة عبد الرحمن الأبنودى
- وائل السمرى يكتب: ومات صاحب "القلب الأخضرانى" وهو المصهور فى حب مصر والمندمج فى تضاريسها.. والمفتون بحواريها وقراها وفقرائها وشعرائها وأناشيدها ومواويلها وملاحمها وملامحها
عدد الردود 0
بواسطة:
يحي سالم
توفي صاحب القلب الاخضراني
الله يرحمه ,, احب مصر كثيرا ,, وشعره