الكتابة عبر النوعية – النص وقلق الوجود
سنحت لى فرصة إقامة معرض مكتبة الإسكندرية للكتاب مناقشة مجموعة الكاتب والصحفى بلال رمضان "العَرَق مبتدأ العشق" الصادرة عن دار روافد للنشر والتوزيع.
قسّم بلال رمضان مجموعته نقاطٍ أربعين، ولا نقول أربعين قصة أو ومضة أو أى من أشكال السرد؛ ذلك أنّ المجموعة نفسها تقع فى نحو تسعٍ وثمانين صفحة من الحجم المتوسط، وقد ترك الكاتب – متعمّدا- بعض الصفحات خالية، لاسيما آخر صفحات العمل.
وهنا نبدأ مع كاتبنا رحلةً من عَرق التيه، ننتهى بالنقطة الأربعين الخاوية؛ فأربعين فى العقلية الشرقية هو رقم النبوة، والنضج، وربما الحكمة، وهو عند بلال رمضان نقطة انطلاق نحو المجهول فى تساؤلاته اللامنتهية.
والسؤال الذى يطرح نفسه، إلى أى نوع من أنواع السرد تنتمى نصوص المجموعة؛ أهى قصص قصيرة جدا أم ومضات، أم خواطر، أم نصوص من قصائد نثرية.
الحق أنّ بعض نصوص المجموعة قد يصدق عليها قالب القصة القصيرة جدا، إذ تغلب عليها الصبغة الحكائية، فيما تبدو بعض النصوص وكأنها تساؤلات وجودية، أو ومضات تنبع عن ذات الكاتب صاغها بلغة أقرب إلى لغة الصوفية. فالتصوف حالة من وجد وتساؤل دائم عن كينونة النفس والعالم والإله؛ لذا تختلف التجربة الصوفية، باختلاف الذات التى تصدر عنها هذه التجربة، لذا نجد العنوان يحمل هذه التجربة؛ تجربة المعاناة من أجل الحقيقة، وهنا تأتى دلالة "العَرَق"، الذى ينتهى بالعشق:
"اثنين كنّا
ولم أكن أنّ الشياطين تتأدّب
اثنين
وصلاة العشق وحّدتنا".
يستهل الكاتب مجموعته برفضه ما يسمى "عتبات النص"، أو العناوين، ليرفض معها تأويلات النقاد لنصوصه اعتمادا على استقراء العناوين، ليجعل المتلقى يشاركه المسؤولية عن عمله، والمسؤولية فى صنع عالمه الرمزى، غير أنه لا يلبث أن يقع فى شَرَك العناوين مرة أخرى، فيقول فى بدء المجموعة:
"لا أومن بالعناوين
وهنا كفرت بها منعا للتضليل".
ويتمادى الكاتب فى تضليل قرائه فيهدى مجموعته إلى كلٍّ من: "نيتشه"، و"سلفادور دالى".
وهنا يختار الشطرنج برقعاته السوداء والبيضاء، بوعيه ولاوعيه، بشقه الواعى الذى تمثله فلسفة نيتشه المادية، وشقه اللاواعى يمثله دالى صاحب الشطحات فى فنه وفكره، وصاحب الرؤى وتغليب اللاوعى من أجل كشف الجزء البعيد فى الذات، وهنا يبرز أصل الصراع الكامن فى النفس:
"إلى نيتشه وسلفادور دالى
كان لابد أن تلتقيا فى زمن واحد
لدينا أحاديث كثيرة، فاحجزا لى مقعدا بجواركما
سآتى إليكما بالشطرنج .."
يقدّم بلال رمضان تقاطعات مع النصوص والأفكار البرى التى لطالما رسخت فى العقول، ورسخت معها أفكار حول مكانة المرأة مثلا فى التراث، وهنا يصير الأسطورى مقدّسا فى الوعى الجمعى، وهو ما يقدمه كاتبنا معتمدا على عنصر "المفارقة السردية" بين المقدمات والنهايات فى نصوصه:
"ليس صحيحا أنّ حواء هى من أغوَت آدم ليأكل التفاحة
وليس صحيحا أن نيوتن اكتشف الجاذبية بسقوط التفاحة
ولأنّ ما تقدّم
فإنّ عيسى لم يصلب ليغفر الله خطيئة البشرية
لأننى قد جئتك والتفاح بشفاهك".
كذلك يقول:
"لأنّ الله لم يرسل من النساء قديسات ونبيات
لأنّ الله خلق أمى من أبى
فتشت عنك
لأعرف من أنا .."
كذلك تتناص صورة الخطاب الباحث عن الحقيقة فى المجموعة مع بعض صور الخطاب الموجهة من البشرى إلى الترنسدنتالى فى بعض النصوص التراثية، كأسفار العهد القديم، كما فى مزامير داوود، وسفر حبقوق، إذ يطرح كاتبنا تساؤلاته البشرية من المستوى الأرضى إلى الإلهى متسائلا: "هل يكون من المعصية عبادة؟".
إنّ "لماذا" كانت دومًا المحركِ المسيطر على مجموعة بلال رمضان التى لا نستطيع أن نصبها فى قالب نثرى جامد؛ ذلك أن السؤال الوجودى يكسر أبواب الشكل، والقالب، لأنه يريد دوما أن يبدو جامحًا، بلا قيود، وهنا تأتى الكتابة عبر النوعية، أو تداخل الأنواع السردية فى هذه المجموعة، لتعكس شيئا من الفوضى وتساؤلات العبث والغموض.
وهنا يفسح بلال رمضان المجال لمنطقة اللاوعى بتساؤلاتها المضنية لتطل برأسها من بين السطور، ليجلس إلى جوار فوضوية سلفادور دالى الظاهرة فى عدم انتظام شكل عرض مقطوعاته السردية، فهو يلخّص مجموعته فى هذه الومضة التى يقول فيها:
"أنا ما جئت إلا لأسأل نيابة عمّن لم يأتوا بعد،،، لماذا؟".
موضوعات متعلقة..
- ندى يسرى: "العرق مبتدأ العشق" لبلال رمضان مدرسة جديدة فى السرد