نقلا عن اليومى..
اعتمدت الدولة فى العصر العثمانى على بناء القيسارية، كسوق تجارى ينقسم إلى عدد من الوكالات تتخصص كل منها فى بيع نوع معين من المنتجات، كل وكالة تنقسم إلى محلات وأماكن للمبيت ليقيم فيها التجار من خارج أسيوط حتى تنتهى عمليات البيع، فكانت القيسارية هى السوق التجارى الرسمى والذى استمر فى عهود الدول اللاحقة للعثمانيين.
فى ذلك الوقت، استمر النحاس فى تصدر قائمة المهن التى يتميز بها الأسايطة دون غيرهم من التجار، عشرات المنتجات تخرج من تحت أيديهم، يتناقلها الأبناء عن آبائهم، خصوصا أنها حرفة صعبة تحتاج إلى صبر ومهارة لا يتمتع بها الكثيرون فكان يتميز أصحابها بامتلاكها.
مصطفى عبدالعال، هو النحّاس الوحيد الباقى فى قيسارية أسيوط حاليا، تجده منكبا داخل ورشته على إصلاح أوان قديمة، فقد هجر الناس استخدامه فى تجهيز الفتيات حاليا مع ظهور الألومنيوم الأقل سعرا، ليقتصر صناعة النحاس وفقا لمصطفى على «الشيشة» والتى تطلبها بعض المقاهى خصوصا التراثية، بينما يأتى إليه كل حين وآخر مسؤولو أحد المساجد ليصمم لهم هلاله من النحاس.
يقول مصطفى «زى ما شكل القيسارية اتغير وتحول إلى تلك العشوائية، تدهورت صناع النحاس»، شارحا ذلك بأن الإهمال جعل الأسواق التجارية لم تعد مركزا لباقى المحافظات مثل زمان وبالتالى قل الطلب وترتب عليه بدوره انخفاض العرض، فهجر أغلب أصحاب الحرفة الصناعة مع تدهور أحوالهم الاقتصادية ولم تعد مصدر جذب لعمالة ماهرة جديدة.
يتذكر مصطفى انتشار محلات النحاس فى القيسارية والتى تحتل بدلا منها حاليا محلات المفروشات والملابس الجاهزة المستوردة، قائلا «حتى أبناء المحافظة نفسهم لم يعودوا يترددون على القيسارية مثل زمان نظرا لازدحامه الشديد وعشوائيته».
الأسئلة التى ترد على ذهنك بمجرد أن ترحل من ورشة مصطفى يرددها كل أهالى المنطقة القدامى والذين عاصروا فترات ازدهار القيسارية، يقول حمدى محمد، صانع مفاتيح «كان أولى أن تبدأ الدولة بأى مشروع لدعم المهن القديمة فى القيسارية بتسويق منتجاتهم مثلا أو حتى الحفاظ على نظام السوق هنا وطابعه السياحى حتى يستمر مريدوه من الأجانب والذين كانوا يقبلون بشدة على هذه المنتجات اليدوية»، مضيفا: «الفقر والزيادة السكانية هموم تقصم ظهر المواطن ولا تعطيه الفرصة لتنظيم نفسه بنفسه، ده دور المحافظة المفروض».
3 وكالات أثرية تم تسجيلها منذ عام ونصف داخل القيسارية لتتبع هيئة الآثار، فضلا عن قنطرة المجذوب والتى تم إنشاؤها فى العصر المملوكى واستخدمها محمد على لتوصيل المياه، يقول على محفوظ كبير مفتشى الآثار الإسلامية مركز أسيوط، إن استلامها بدأ منذ عام ونصف فقط عقب إعادة ترميمها.
التناقض بين ما حدثنا عنه محفوظ عما تمثله المنطقة من أهمية شديدة لأنها تعبر عن أسيوط القديمة، والعشوائية المتفشية فيها والتى لا تعبر عن أى وسيلة للجذب السياحى، برره بأن المشروع الذى تقدم به مع زملائه من مفتشى الآثار فى أسيوط ما زال تتم دراسته لتمويله والذى غالبا ما سيكون تمويلا من إحدى السفارات الأجنبية، لتحويل هذه الوكالات إلى مزارات وأماكن لعقد الندوات والحفلات تساعد على الرواج السياحى والثقافى، بل ويتضمن إحياء مهن المحافظة القديمة.
لا تخضع كل الوكالات للإشراف الكامل للهيئة برغم تسجيلها، فوكالة لطفى على سبيل المثال يقيم فيها عدد من الأسر عقب أن هجرها التجار، يبررون ذلك بأن الوكالة مأواهم الوحيد عقب أن هجروا مهنهم، وتتحدث المحافظة عن خطة لتعويضهم بشقق أخرى، إلا أنك فى النهاية تجد كل ما يدور على أرض الواقع مجرد كلام لا يتعدى إلى مرحلة التنفيذ.
الأمر السابق لا يختلف كثيرا عن 4 قيساريات موجودة فى محيط مدينة أسيوط تحوى 20 وكالة، كانت فى السابق تختص كل منها بنوع معين من التجارة لضبط الأسعار وحفظ حق الدولة من الضرائب.
الوجه الآخر للنخيلة
حينما اتجهت الأنظار إلى قرية النخيلة التابعة لمركز أبو تيج جنوب أسيوط لم تشاهد فيها سوى إمبراطورية عزت حنفى التى سارع كتاب السينما والدراما المصرية لتجسيد قصته على الشاشة لتمثيل قصة دخول الجزيرة فى زراعة الأفيون حتى اقتحمتها قوات الداخلية للقبض عليه وإنهاء أسطورته المزعومة.
فى هذه الأثناء لم يلتفت أحد لصناعة أخرى كانت تتلقف الأيدى العاملة فى القرية، قضت أجهزة الدولة بالفعل على زراعة المخدرات داخل القرية، دون أن تهتم بتنمية البديل الذى يلجأ إليه أبناؤها للعمل حتى لا يعودوا إلى هذه المهنة المشبوهة من جديد والذى كان موجودا بالفعل فى صناعة السجاد والكليم لدرجة لا تعتمد على السوق المحلى فقط وانما تصديرها للخارج.
الوصول إلى النخيلة ليس صعبا، وكما روته الكتابات الإعلامية سابقا يحده عدة طرق، برى وبحرى، تحمل الشوارع أسماء العائلات المقيمة فيها، أغلب المنازل كانت مغلقة بالأقفال الحديدية فسرها لنا مواطنوها بأن القرية باءت طاردة للسكان لا يستمر فيها سوى من له وظيفة ثابتة أو يملك أرضا زراعية بينما يخرج شبابها لعدم وجود فرص عمل أخرى مهاجرا إلى الدولة العربية أو القاهرة ومحافظات بحرى، أما من قرر البقاء فى القرية فلم يعد «الصنايعى الماهر» الذى تتهافت عليه التجار لشراء منتجاته من السجاد والكليم اليدوى، بل تحول إلى حامل «البوتكة» أى يقوم بشراء الملابس المستوردة يحملها فى شنط ليبدأ فى بيعها لأهالى القرية.
«كان كل بيت فيه نول، وكان فيه شوارع بأكملها تعمل فى السجاد والكليم، لم يبق منهم سوى 2 تقريبا من أصل 7 آلاف عامل»، يقول أنور حنا، من أقدم العاملين فى المهنة والذى هجرها عقب كساد سوقها، مضيفا «الحرفة لم تتدهور مرة واحدة، بل تأثرنا تدريجيا بارتفاع أسعار المواد الخام والنقل، فالمصنع الوحيد الذى يقوم بتنقية الصوف وتحويله لخيوط موجود فى كفر الشيخ والذى تضاعف النقل إليه 10 أضعاف سعره زمان، لذا فكرنا أن ننشئ مصنعا خاصا بنا هنا فى أسيوط ويخدم الحرفة، لكن كنا نحتاج دعما من الدولة أو رجال الأعمال لأننا لا نملك الإمكانيات المادية لإنشائه وقدمنا المشروع بالفعل فى الثمانينيات للمجلس المحلى وظل يؤجل إلى أن اندثرت المهنة تماما».
أسبوعيا كانت تصدر النخيلة ما يقرب من 5 سيارات محملة بالسجاد والكليم إلى أنحاء الجمهورية كافة، حاليا يعمل عدد من أصحاب المهنة فى منازلهم بالطلبات الخاصة، مثل أبوكمال، الذى لا يستطيع أن يترك المهنة بعد 70 عاما من العمل، معلقا بأنه يحبها، ويخشى أن تندثر عقب رحيله، فلم يعد أحد يريد أن يتوارثها مثل زمان ولا يوجد أى مشروعات للحفاظ عليها.
على نوله الخشبى الذى أقامه بنفسه، استغرق أبو كمال فى صنع سجادة طلبها أحد أصدقائه بشكل خاص، يقول فيه ناس بتطلبها كموضة، الدولة لا دعمتنا ولا حمتنا من المنافسة، تركتنا نهبا للتنافس مع الكليم والسجاد المستورد من الدول الاخرى دون أن تضع ضوابط لحماية الناتج المحلى اليدوى، طبيعى الواحد لما يشوف سجادة بـ 120 جنيها وسجادة يدوية بـ 200 جنيه برغم الفارق الكبير فى الجودة بينهما لكن كأوضاع اقتصادية سيئة سيختار الأولى.
على عتبات المنازل تجلس السيدات، يشير أحمد العجان، المدرس بوزارة التربية والتعليم بأبو تيج، قائلا إن هذا المشهد لم يكن موجودا زمان، حيث كانت السيدات يعملن أيضا فى الغزل داخل البيوت، مضيفا أن نسبة البطالة تكاد تكون صفرا وقتها، مشيرا إلى أن اللصوص كانوا يخشون دخول النخيلة لأنهم يعلمون أن فى كل بيت يسهر صاحبه أمام النول الخاص به طوال الوقت.
لم يلفت نظر الحكومة فى قصة عزت حنفى سوى أن القرية تحتاج إلى دهان ورصف شوارعها، على الرغم من كونها بدون صرف صحى أو أفران للخبز أو خدمات طبية تعيش القرية على الجهود الذاتية لأصحابها.
تجربة أصحاب «الفجر».. لماذا أخفقت؟
«مفيش أرض، مفيش فرص عمل، مفيش أراضى للبناء إلا فى أسيوط الجديدة والناس بتستسهل فبتبنى على الأرض الزراعية، والثأر ينهش العائلات على النفوذ، ففكرنا فى المشروع لكى يحل كل هذه الأزمات مرة واحدة ويعيد الشباب إلى العمل المشترك»، يقول محمد كامل، عضو الجمعية المصرية للتنمية الزراعية وتنمية المجتمع بأسيوط متحدثا عن مشروع استصلاح 2100 فدان تقدمت به الجمعية يخدم 700 شاب من قرى أسيوط المتعثر منذ 3 سنوات.
يقول محمد: وجدنا فى الجمعية أن أكبر مشكلات القرى فى أسيوط البطالة وضيق نطاق الحيز العمرانى، ففكرنا فى تبنى مشروعاً لاستصلاح الأراضى، منها زيادة الرقعة الزراعية ومنها احتواء الشباب من البطالة، والأهم بناء قرية جديدة تدمج بين شباب العائلات التى تشتعل بينها الثأر، وقررنا أن نسميها «الفجر»، وبالفعل انضم للجمعية 700 شاب من قرية بنى زيد أكراد وبعض القرى المجاورة، وأعددنا دراسة الجدوى وقدمناها لمديرية الشؤون الاجتماعية بأسيوط فطلبت منا سؤال جميع الهيئات المالكة لأراضى الدولة للتأكد من عدم دخولها فى أى مشروعات.
وفقا للأوراق الرسمية التى تملكها الجمعية، بدأت الإجراءات بطلب تخصيص 400 فدان كمرحلة أولى للمشروع فى الظهير الصحراوى لمدينة أسيوط، وعبر عديد من الإجراءات التى اتخذتها الجمعية والتى كانت تطلبها الهيئات الرسمية بدءا من هيئة مشروعات التعمير والتنمية الزراعية ووزارة الدفاع والمركز الوطنى لتخطيط استخدامات أراضى الدولة، انتهى الأمر بأن المساحة المطلوبة خارج خطة الدولة للاستثمار حتى 2017.
عند جهاز أملاك الدولة توقف الأمر بحادث رشوة أبلغ فيه رئيس الجمعية عبدالرحمن حامد الجهات الأمنية التى رتبت للقبض على الموظف، وهو الأمر الذى لم يكن فى صالح حامد كما كان يتخيل، فقد عاد ملف المشروع من جديد إلى المحافظة التى ظلت تماطل فى الرد حتى جاء جواب إبراهيم حماد محافظ أسيوط صريحا بأن الجمعية لم تمنح صفة النفع العام ولم تستوف المستندات اللازمة.
العقبة فى جواب المحافظ كما يقول كامل هو أن الجمعية قامت بكل الإجراءات التى تطلبها الهيئات وفقا للقانون، وتبقى الجمعية وشبابها على مدار عام ينضم إلى العامين السابقين فى حلقة مفرغة للبحث عن الإجراءات الناقصة والتى لا يجيبهم عليها أحد.
المشروع وفقا لدراسة جدواه كان سيتضمن 3 إلى 5 أفدنة لكل شاب وأسرته، على أن يتم تخصيص %33 من المساحة المخصصة لإقامة قرية سكنية يقطنها أصحاب الأراضى المستصلحة.
دفعت الجمعية حوالى 300 ألف جنيه وفقا لكامل كمبلغ تأمينى على قطعة الأرض المطلوب تخصيصها كمرحلة أولى لم تستردها حتى الآن، ليبقى السؤال الذى يطرحه كامل وغيره من أعضاء الجمعية الذين ما زالوا لا يعلمون مصير مشروعهم، كيف تشجع الدولة الاستثمار من جهة وتعرقلها أمام الشباب من جهة أخرى، يقول كامل «إذا كان المشروعات مفتوحة لرجال الأعمال الكبار فقط فعلى الدولة أن تكون صريحة أمام الشباب من البداية».