راشد من مخلوقات الصيف! نحن الآن فى قلب الشتاء، الأرض غارقة، والوحل يغطى الشوارع، والمدرسة على أشدها، ولولا أننا فى يوم الخميس، ما سمح لى أبى باللعب.
تجمع العيال حوله، كأنه حاو، سيلعب مع الدابتين. زعق فيهم ورفع ساقه المبرومة كالعصا . تفرقوا كالكتاكيت المفزوعة، وتركونى غير قادر على فهم وجود الرجل الذى يسعدنى طول الأجازة !
اقترب وقال بزهو:
- خالك عطية بعثنى لأحضرك حالا. لديه الليلة حفل ومنشد وذكر .
ارتفعت دقات قلبى، فعقدت لسانى، وهلت روائح اللعب والسروح إلى الغيط والسهر فأكملت خرسى !
تحركت بصعوبة، وتبعنى، مع عيون كثيرة متسائلة ومندهشة. كانت أمى تقف بالباب، بدا راشد حائرا، رحبت به، فجاء أبى على صوتها .
نقل الرسنين إلى يده اليسرى وصافح أبى قائلا بصوته الذى يشبه صوت الأطفال:
- أنا راشد قراقص من عزبة سليمان. الحاج عطية أرسلنى لأحضر محمود. لديه الليلة منشد وذكر .
قال أبى:
- نحن فى أيام المدرسة ولابد أن يذاكر و...
- نعم نعم، لن يغيب سوى الليلة، فى الصباح سأعود به، الحاجة جدته أكدت ذلك .
- كيف حال صحتها ؟
- - بخير، هى من أشرفت على وضع البرذعتين، وطلبت منى إحضار ابننا محمود، هذا رغم مشاغلى !
قالت أمى تنهى المشهد:
- دعه يذهب مع عمه راشد .
فى لحظة واحدة وضعنى فوق البرذعة، وقفز إلى الثانية. طرنا من الشارع تتطاير حولنا قطع الطين .
العيال يرمقون بلهفة، لم أبادلهم النظرات .
كنا قبيل المغرب، والطريق شبعت مطرا، فبدت الحمارتان مجهدتين، تنزعان حوافرهما بصعوبة وراشد لا ينفك يخزهما بالعصا الرفيعة .
انطلق فورا يكمل حكايات قديمة، قطعتها المدرسة. لم أكن أسمع شيئا لأن ادراكى كله سبقنى الى العزبة.
ثمة سرادق ونور ومنشد وذاكرون يتمايلون.
كلما أحس بشرودى، يرفع صوته ويضاعف الوخزات للبهيمتين. أهز رأسى محاولا إقناعه أننى أنصت لمغامراته التى لا تنتهى .
العصافير عائدة مقرورة والبهائم تسير إلى حظائرها سعيدة بما ينتظرها من دفء.
الترعة اكتست بالظلام، وتصاعد من جوفها صوت المخلوقات المختبئة من وهج النهار .
كافحت ما كان يجول فى عقلى من مخاوف، وبدأت زبالات ضوء واهنة تبدو من العزبة.
صمت راشد كأن أحدا أسكته.
حين وصلنا أما م بيت خالى لم يكن الكلوب الذى يضئ المدخل موجودا !
طرقت الباب، ففتحت لى جدتى وبيدها لمبة صغيرة:
- محمود ؟ ما الذى جاء بك الآن ؟
التفت خلفى، لم أجد أثرا لراشد. وقفت واجما ارتعش، فنادت خالى .
جاء بملابس البيت، جلباب من الكستور وطاقية من الصوف:
- محمود ؟ ماذا جرى ؟ هل أمك بخير؟
وجدتنى أبكى وأجرى بكل قوتى، فاندفع خالى خلفى حافيا.
كالريح أخوض فى الطين وبرك المياه، يخزنى البرد كالإبر فلا أبالى:
- ارجع يا ولد .
أسمع لهاثه خلفى، لكننى أجرى فى الحلكة بشجاعة.
دخلت بيتنا وارتميت على حجر أمى، فيما جلس خالى يلهث من التعب .
موضوعات متعلقة..
"أشواق قديمة" قصة قصيرة لـ"سمير المنزلاوى"