ربما أرادت الدولة العباسية، الناهضة فى ذلك الوقت، أن تختبر "قسوتها" وقدرتها على الفتك بالمختلفين معها والمشكوك فى انتمائهم، فرغم أن ابن المقفع يعد ابن الدولة العباسية والتى كان يرى أن حظه مربوطا بها، حيث عمل كاتبا فى قصور أعمام الخليفة المنصور، وكان يتمنى أن يد الدولة فى أحسن حال فلما وجد أن الفساد يتغلغل فى الدولة لأن الأموال تحمل من الأمصار والولايات إلى بغداد عاصمة الخلافة بدون سجلات تضبطها أو دفاتر، والقضاة يتضاربون فى أحكامهم فى القضية الواحدة من بلد إلى آخر لعدم وجود قانون موحد يرجعون إليه، وقادة الجند ينشرون بين العامة دعاوى الذل والخنوع للحاكم المستبد تحت ستار الطاعة لولى الأمر، كتب "رسالة الصحابة" والتى يعنى بها صحابة الخليفة وبطانته، وقد وجه فيها نقدا مريرا للجميع، وفيها ينصح الكاتب أمير المؤمنين بأن يعيد النظر فى اختيار رؤوس الدولة بعد أن اكتشف أن هناك مرءوسين أكفأ من رؤسائهم، فلو وضع الأكفاء والأخيار فى موضع القيادة لكان خير اعظيم. كما ينصح بتثقيف الجند ثقافة علمية وخلقية، وتعليمهم الكتابة والتفقه فى الدين، وكذلك تقصى أحوالهم.
إذن ما الذى أدى لنهاية ابن القفع، من الممكن أن يكون سقط ضحية لجملة "من اتهمته فاقتله" التى كان يؤمن بها "المنصور" ويطبقها دائما، أو لعل المبالغة فى صيغة كتاب الأمان الذى وضعه ابن المقفع ليوقّع عليه أبو جعفر المنصور، أماناً لعبد الله بن على عم المنصور. وكان ابن المقفع قد أفرط فى الاحتياط عند كتابة هذا الميثاق بين الرجلين (عبد الله بن على والمنصور) حتى لا يجد المنصور منفذاً للإخلال بعهده. ومما جاء فى كتاب الأمان: إذا أخلّ المنصور بشرط من شروط الأمان كانت "نساؤه طوالق، وكان الناس فى حلّ من بيعته"، مما أغاظ المنصور فقال: "أما من أحد يكفينيه"؟ وكان سفيان بن معاوية يبيّت لابن المقفع الحقد.
عندما وجد ابن المقفع نفسه داخل الأسر استجار بالله أن يصفح عنه، ولكن سفيان بن معاوية والى البصرة من قبل المنصور لم يرق قلبه، وقال له: أمى مغتلمة كما كنت تقول إن لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد!! وتفتق ذهنه عن أبشع فنون التعذيب، فأمر بتنور أشعلت فيه النيران، وبدأ يقطع من جسم ابن المقفع قطعة بعد قطعة وهو حي، ويلقى بها فى التنور حتى يرى أطرافه وهى تقطع ثم تحرق، قبل أن تحرق بقيته دفعة واحدة آخر الأمر.
موضوعات متعلقة..
"ابن الفقير" حكاية شعب اسمه "الجزائر" الكاتب الجزائرى مولود فرعون تحدى الاحتلال الفرنسى بـ"الكتابة" فقتلوه