وأوضح الباحث أسباب تحديد الفترة الزمنية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين إلى تزايد اهتمام الرحالة بالعراق فى أعقاب احتلال فرنسا لمصر عام 1798، فزار العراق فى عام 1800 ثلاث رحالة (بوشان، روسو، أوليفيه)، ثم توالى الرحالة عليه، وتنتهى الفترة محل الدراسة بالقضاء على الملكية فى العراق وإعلان الجمهورية على إثر ثورة 14 تموز/ يوليه 1958، حيث خبأ نجم أدب الرحلات لصالح رحالة آخرون يعملون فى مجال الصحافة؛ فيما بات يُسمى "استطلاعات صحفية".
أما أهم الأسباب التى حفزت الباحث لاختيار الموضوع، فتتمثل فى أن حياة العشيرة العربية تتضمن كل تراثنا الفكرى الجمعى العربى التليد الأصيل، وأن هذا التراث بصفته "الجمعية" يؤكد وحدة الكيان العربى فى أهم جانب من حياة الأمم: "جانب الفكر والثقافة"، وهو مجال تركه الباحثون العرب لأصحاب الأقلام غير العربية، يعبثون كما شاءت لهم أهواؤهم ونزعاتهم بتقديم صورة مشوهة عن تراثنا الحضارى المتمثل فى هذا المجال من أصل حياتنا فى كل بلد عربى على السواء. وكان إيمان الباحث بوحدة الأمة العربية أصلا وتراثًا، وعقيدته فى المستقبل الذى يجب أن نجعل هدف "الوحدة" غايتنا لتمكين منعتنا وقوتنا، ثم أشار إلى أن أحدنا لا يعرف الآخر، فى البلد الشقيق معرفة سليمة واضحة، أصول الحياة الاجتماعية، وأوجه الشبه، والاختلاف لم تزل مبهمة، وبما أنه تتجمع فى حياة القبيلة كل أوجه التشابه، ويوجد الخيط الأقوى الذى يشدّ المجتمع العربى بعضه إلى بعض شدًا، فإنه يجب ألا ننسى أن كل قطر من البلاد العربية تعرّض لعوامل تاريخية وحضارية أثرت فى عاداته وتقاليده، بالإضافة إلى أن نفس الأعراق العربية القديمة تتباين قدرتها فى توجيه الحياة الاجتماعية، ومن هنا يبدأ الخلاف، ومن هذه النقطة تنحجب الرؤية، وإذا كانت الأصول البدوية لم تزل آثارها القديمة فى الفكر العربى تعمل بالعراق، فالأمر ليس كذلك فى بلاد أخرى. إننا فى أشد الحاجة إلى تعميق الإدراك لمواجهة التفكير فى شتى نواحى الحياة فى كل بلاد العروبة، ولهذا رأيته واجبًا قوميًا أن أشارك ببحثى هذا فى التعريف بجانب أصيل فى مجتمع العراق، ولن نستطيع تفهّم مجتمع العراق، إلا إذا كانت نقطة البداية فهم مجتمع العشائر: قيّمه وتراثه.
تكتسب الدراسة أهميتها من خلال رصدها لتاريخ الظواهر الاجتماعية لفهم وضعها الراهن وعوامل تطورها، مما يُعطى للدراسات الاجتماعية والبيئية الحالية إمكانية المقارنة وفهم آلية تطور الظواهر. ومعرفة الوضع الذى كانت عليه البيئة الاجتماعية العراقية التى شوهدت ووثق الرحالة تواجدها، لتمكيننا من تحديد التطورات التى طرأت عليها. ورصد القيم والعادات والتقاليد وبالتالى الوضع الأنثروبولوجى للفترة الزمنية التى وثقها الرحالة. وتُشكل هذه الكتابات والمعارف والمعطيات مكونًا هامًا من تاريخ العراق الثقافى والاجتماعى والعمراني، وتبرز مسيرة تطوره الحضاري. وترصد أنماط الإنتاج، ومختلف النشاطات السكانية فى تلك الفترة، مما يُشكِّل قاعدة معلومات مهمة للدراسات التى تتناول مختلف جوانب الحياة فى العراق. ومحاولتها رسم لوحة متكاملة عن البيئة الطبيعية، والحياة الاجتماعية والثقافية، ومختلف النشاطات السكانية من خلال ملاحظات الرحالة لجوانب الحياة التى رصدوها فى رحلاتهم.
تهدف الدراسة إلى رصد الواقع السكانى من حيث أنماط الإنتاج والعادات والتقاليد فى العراق خلال الفترات التى وثق فيها الرحالة مشاهداتهم وملاحظاتهم. وتقصى الوضع الاجتماعى والاقتصادى للسكان فى العراق من خلال ملاحظات الرحالة فى الفترة محل الدراسة. وتوفير إمكانية المقارنة بين واقع التطور الحضارى والثقافى والاجتماعى الذى حققته العراق، وبين ما رصده الرحالة، والواقع الحالي. ويقتصر دور الباحث فى الدراسة على الرحالة الذين زاروا العراق ووثقوا ملاحظاتهم، من العرب والأجانب، وما وثّقه هؤلاء الرحالة من جوانب العراق الاقتصادية، وأهم النشاطات السكانية، والأسواق والجانب الاجتماعى وما يتضمنه من عادات وتقاليد وقيم وجوانب ثقافية تميز السكان من أزياء وثقافات فرعية لسكان البادية وكذلك الجوانب الأخرى التى لاحظها الرحالة فى العراق.
وقسمت الدراسة إلى مقدمة وتمهيد وثمانية فصول وخاتمة. تناول الباحث فى التمهيد ماهية العراق وتطوره التاريخى حتى ثورة تموز 1958، العشيرة والقبيلة وتفريعاتهما، العادات والتقاليد والقيم، رؤية الرحالة وقيمتها، الرحلة والرحالة وفوائد الارتحال، الرحالة عبر العصور، الرحالة والشرق والعراق، دوافع وأهداف الرحالة، أهمية كتابات الرحالة، كتابات الرحالة مصدر تاريخي، النقد التاريخى لكتابات الرحالة، أهم الرحالة الذين زاروا العراق. ورصد الفصل الأول: المجتمع العشائري، الذى يضم الشيوخ، والرجال، والنساء، والعبيد، والشباب، والبنات. أما الفصل الثاني: الأسرة العشائرية فقد عالج مرحل تكوّن الأسرة البدوية منذ التفكير فيها، حتى انهيارها، فتناول الحب، والزواج، والأمومة، والأطفال، والختان، والطلاق، والموت. وأوضح الفصل الثالث: الملبس والمسكن العشائري، فبدأ أولا بالملبس العشائرى للرجل، ثم للمرأة، وتناول الحذاء، والزينة والحلي، واختتم بالوشم باعتباره من زينة المرأة البدوية. ثم انتقل لتناول أنواع المسكن العشائري، من البيوت، والخيام، وبيوت الشعر، وبيوت أخرى. وتناول مكونات البيت العشائرى من الداخل، وأدوات المطبخ، ثم الوقود، والحيوانات، ونظرًا لارتباط الوسم والذبح بالحيوانات كأداة لتمييزها، فقد تناولهما الفصل بالبحث والدراسة. واستعرض الفصل الرابع: الحياة اليومية العشائرية من خلال النوم، والمأكل، والمشرب، والمجلس، والقهوة، والشاي، والتدخين. وجاء الفصل الخامس ليتناول الترحال العشائري، فتحدث عن أنواع المخيمات البدوية، ثم الجمل، والحصان، والهودج كأدوات الترحال فى البيداء. وتناول الفصل السادس: الحياة الاجتماعية العشائرية، فكان الثأر، والحماية والأخوة، والبطالة والكسل، وانتقال الأخبار، والصداقة، والتحية البدوية، والوداع. واستكمل الفصل السابع: الحياة الاقتصادية العشائرية، فتحدث عن الملكية العشائرية، ثم المهن التى مارسها الرجل العشائرى بداية بالرعي، ثم التجارة، والزراعة، وأخيرًا مهن يحتقرها البدو، وكذلك تناول السرقة والنهب والغزو، والصيد والفروسية باعتبارهم من مصادر دخل البدوي. وأخيرًا جاء الفصل الثامن: ليتناول القيم المعنوية العشائرية: الضيافة، النظافة، الحياء، العصبية، السب، اللطف، الشجاعة، النبل، احترام المرأة، الشهامة، السخاء، التواضع، المساواة، التسامح، الوفاء، الإخلاص، الصدق والكذب، الحرية، الصبر، الأمانة، الأنفة والاعتزاز، الفراسة، الفخر، القناعة.
تمخضت الدراسة عن نتائج هامة فى دراسة قيم وعادات عشائر العراق (1800-1958) خلال تلك المرحلة المؤثرة الهامة فى تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب بصفة عامة، ومن الممكن أن نرصد أهمية أولئك الرحالة الأوروبيين، وذلك على كافة الأصعدة والمستويات السياسية والحربية والاقتصادية والدينية والعقائدية وحتى الطبية العلاجية. حيث أفادت مؤلفات الرحالة فى العراق وعلى مدى القرنين التاسع عشر والعشرين، فى تقديم صورة جلية للطبوغرافية التاريخية للعراق حينذاك. ومزجت بين الجغرافيا والتاريخ فى تناسق حيوى وهام، ومن المهم الإدراك أن كتابة تاريخ العراق عامة، والاجتماعى خاصة، بدون الاعتماد على تلك الكتابات يعد عملا ناقصًا. وألقت مؤلفات الرحالة الأضواء الكاشفة على أوضاع العشائر العراقية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعقائدية، وظهر حرصهم الواضح على إيراد العديد من الجوانب السكانية، على نحو أوضح إدراكهم لأهميتها. وكشف الرحالة، الذين قدموا إلى العراق عمّا يُمكن وصفه بالمواجهة الحضارية بين الجانبين الشرقى المسلم والغربى الصليبي. ووفرت رؤية أولئك الرحالة فى ربوع العراق، صورة هامة لدى الباحثين المحدثين عن خريطة العراق العشائرية، العرقية والمذهبية، بالإضافة إلى حجم المواجهة السنية الشيعية. وقدمت إشارات الرحالة الذين زاروا العراق، شهادة معاصرة عن العلاقات التجارية، والصراعات والنزاعات القبلية، والأعراف والعادات والتقاليد الموروثة، والنظم والقوانين والقضاء البدوى لدى العشائر العراقية عربيها وكردها.
ساعدت كتابات الرحالة فى رسم صورة للمجتمع العشائري، وأكدت على أهمية دور الشيوخ فيه، ورسمت صورة للمرأة والرجل، ولم تغفل إلقاء الضوء على دور العبيد كثروة اقتصادية، وكفئة اجتماعية، وأشارت إلى دور الشباب والبنات فى الحياة البدوية فى الصحراء، وملبس ومسكن البدو وأدوات الزينة والحلي، والوشم، وأدوات المطبخ البدوي. كما ساعدت فى رسم صورة الأسرة العشائرية، بداية من الحب والزوج، وزواج الخطف، ولم تغفل الأمومة والطفولة، وبعض العادات المرتبطة بالأسرة كالعقيقة والختان والطلاق والموت، فى دلالة على عمق الرحالة وحبهم للحياة البدوية. وكيف تسير أمور الحياة اليومية فى مضاربهم؟ ولم تغفل توضيح كيف يُمارسون الترحال، ووسائل التنقل ما بين الإبل والخيل والهودج، وأنواع المخيمات العشائرية، ثم صور للحياة الاجتماعية العشائرية من الثأر والحماية والأخوة والصداقة والتحية والوداع، كما ساهمت فى توضيح الملكية العشائرية والمهن التى يمارسها البدو، والتى يحتقرونها، وأوضحت دور السرقة والسلب والنهب والغزو والصيد والفروسية كمهن اجتماعية، وكمصدر ثروة اقتصادية، وأخيرًا رصدت القيم المعنوية العشائرية أوضحت الدراسة أن العرف القبلى أقوى سلطانًا فى توجيه المسئولية لدى العشائر العراقية، ومن ثم الجزاء فى العشيرة العراقية من كل قاعدة دينية. وتحجب القاعدة العرفية القاعدة الشرعية بقدر ما تُخالفها، وعلى هذا تشابهت قواعد المسئولية والجزاء عند العشائر العربية جميعًا فى مصادرها وأحكامها الأساسية، وان اختلفت فى تفاصيل التنفيذ. وأن السواني، أو سنن العشائر، تحقق حاجات العشائر الأساسية، فحماية العرض والعصبية، تُشبع حاجة حيوية اجتماعية فى نقاء دم الجماعة والحفاظ على كيانها. وحق الضيافة الكصير والدخالة والالتجاء والوجه تتجه كلها إلى تأكيد تأمين اقتصادى لكل من تعوزه الحاجة إلى معونة تفرضها الجماعة على نفسها.
وأوصى الباحث بإنشاء مركز دراسات تاريخية يعنى بترجمة ونشر ما كتبه الرحالة عن الشرق العربى عامة، والعراق خاصة، وكذلك تحقيق المخطوطات التى تتحدث عن العراق والتاريخ العربى والإسلامي. وضرورة تنظيم المراكز البحثية فى العالم العربى سلسلة ندوات ومؤتمرات تتناول إمكانية استخدام كتابات الرحالة كمصدر يخدم المجال البحثى لكل مركز سواء كان جغرافى أو تاريخى أو اقتصادى أو اجتماعي، أو غيره. والعمل مع مؤسسات فنية متخصصة على إنتاج مسلسلات تلفزيونيه أو أفلام سينمائية تصور رحلات أهم الرحالة الذين مروا بالشرق عامة، والعراق خاصة. ويؤكد الباحث على أهمية تدريس مادة أدب الرحلات فى كافة كليات الآداب والدراسات الإنسانية بمختلف الجامعات العربية. ويوصى الباحث بالعمل على اعداد قاعدة معلومات عن أدب الرحلات وعن أعمال الرحالة الذين زاروا الجزيرة العربية والخليج ونشرها فى كتاب توثيقي.
موضوعات متعلقة..
خالد عزب يكتب: ترجمة كتاب دليل ما وراء الذاكرة والذاكرة
عدد الردود 0
بواسطة:
دبلوماسي
برافو
عدد الردود 0
بواسطة:
د. مأمون البسيوني
أهنىء الدكتور على با لجهد والنجاح والدكتوراة