نقلا عن اليومى..
قبل أن تقرأ
فى العام 1995 حينما وقعت محاولة اغتيال الكاتب العالمى نجيب محفوظ كان السيد أشرف العشماوى مازال فى سلك النيابة العامة، وبحسب ما ستقرأ فى السطور المقبلة كان أصغر أعضاء لجنة التحقيق، ولأن حب الأدب والثقافة كان متأصلًا بداخله، ظلت وقائع التحقيق محفورة فى ذهنه طوال هذه الفترة الطويلة، والآن بعد 20 عامًا يكتبها «العشماوى» وقد تنقل بين المواقع القضائية، حتى وصل إلى منصب مساعد وزير العدالة الانتقالية، قبل أن يترك المنصب الرسمى ويعود إلى منصة القضاء، والآن أيضًا وبعد 20 عامًا صار «العشماوى» أديبًا كبيرًا، له العديد من الروايات الناجحة التى حققت صدى طيبًا منذ إصدارها، منها «زمن الضباع»، و«تويا»، و«المرشد»، و«البار مان»، و«كلاب الراعى»، والآن أيضًا يخص الكاتب والمستشار أشرف العشماوى «اليوم السابع» بهذه الشهادة الأدبية المهمة عن وقائع التحقيق مع الأديب الكبير، والتى سنعرف ممن خلالها كيف كان الأديب العالمى ينظر إلى قاتليه، وأيهما تتجلى فيه روح الإسلام وتسامحه، وإلى نص الشهادة.
عندما خطوت أولى خطواتى بغرفته بمستشفى الشرطة، شعرت على الفور بأننى أمام شخص مختلف، كان يبتسم بوهن، وقد اعتدل بجلسته مرحبًا بى بمودة، عرّفت الأستاذ بنفسى ووظيفتى وسبب وجودى، فلمحت ضيقًا كطيف عابر على ملامحه سرعان ما طرده بلطف وهو يقول بعفوية: «أنا الحقيقة معرفش اللى ضربنى، لكن أنا مسامحه على كل حال، ومعنديش حاجة أضيفها»!
هكذا وبمنتهى السماحة والرحمة كان الأستاذ نجيب محفوظ على استعداد لطى صفحة دامية من حياته، والتى بدأ أول سطورها منتصف أكتوبر من عام 1994، يومها علمت مثل غيرى بخبر محاولة اغتياله، ولم أكن أعرف بعد أبعاد وملابسات الحادث، وبالتالى لم يدر بخلدى على الإطلاق أننى سأكون أحد محققيه الذى سيسمع أقواله باعتباره المجنى عليه، فلم تكن رواية «أولاد حارتنا» حديثة الصدور حتى نضعها على قائمة الدوافع لارتكاب الجريمة، فغرقت فى حيرة مع زملائى بالنيابة حتى ظن بعضنا أن مرتكب الحادث شخص مخبول ممن يهوون الشهرة على الطريقة الأمريكية.
يومها وكان قد مر على محاولة الاغتيال بضعة أسابيع، ظللت أتحدث معه فى أمور عادية وبدا لى أنه مسرور لعدم استجوابه، كان يكفى أن ألقى سؤالاً بسيطًا، أو أفتح موضوعًا عامًا ليفضفض بتلقائية، تركت له المساحة ليتكلم وحده، فنحن فى حضرة الأستاذ، وكان مجمل حديثه يدور حول قلقه على حال مجتمع ينزلق نحو هاوية التخلف والرجعية، وقد صدق.
طال الحديث وتشعب، فى النهاية كان لابد من إجراء التحقيق وسماع أقواله، لكن وقتها أخبرنى الطبيب بأن بقائى أكثر من ساعة معه يرهقه، فرحلت كما أتيت بأوراق بيضاء لم أدوّن فيها حرفًا.. عدت لمكتبى وأجلت التحقيق لبعد باكر.
فى اليوم المحدد ذهبت ومعى زميل محقق آخر، كنت قررت ألا أسأله بنفسى، تركت لزميلى مهمة السؤال عن متهمين لم يرهم الأستاذ، ولا يعرفهم، ولا حتى يريد تذكر ملابسات الحادث برمته، وتفرغت أنا لمراقبته وتأمل تعبيرات وجهه، ما بين التأثر والانفعال، الحزن والمرارة، وعمق النظرة والقراءة لحادث رأى أنه بداية لإرهاب قادم لا نهاية قريبة له إذا ما خفتت شمس التنوير.
قبل انصرافنا ظن نجيب محفوظ أننى رئيس المحققين مع إننى كنت أصغرهم، ويبدو أن الأمر قد اختلط عليه، فسألنى باهتمام: «همّا ليه ضربونى يا حضرة الوكيل؟».
كنت على يقين بأنه يعرف إجابة سؤاله، وأن الأدباء والأصدقاء الذين التفوا حوله منذ اليوم الأول قد أخبروه بكل التفاصيل، حتى زميلى قالها له فى التحقيقات، ووقتها رفض الأستاذ بشدة أن تقرأ روايته من منظور دينى، لكننى لمحت بريقًا غريبًا فى عينيه كمن يريد أن يسمع أمرًا مختلفًا أو لا يريد أن يصدق كل ما قيل له!
أجبته بما اعتقدت أنه سيريحه، وقلت إن من حاول قتله فعل ذلك لإصلاح المجتمع، فسألنى بنفس الاهتمام: وما وجهة نظره فى ذلك؟ قلت بتحفظ: لأنهم يرون أن المجتمع لن ينصلح حاله إلا بقتل الكفار.
أجبته واعتذرت، مقررًا أن تلك العبارة وردت بأقوال المتهم الذى كنت أستجوبه، فابتسم لى بمودة طالبًا ألا أعتذر، ثم فاجأنى سائلاً: أنا أعلم أنهم لم يقرأوا الرواية، لكن أريد معرفة ما إذا كانوا قد قرأوا غيرها.
أسقط فى يدى، فأنا أخفيت عنه أنهم لا يعرفون القراءة حتى لا أزيده ألمًا لرقة مشاعره، فأجبته بأننى غير متذكر، لم ييأس نجيب محفوظ واستأذن منا أن نسمح له بإهداء المتهمين بعض كتبه، وفسر دهشتنا من رد فعله على أنها موافقة منا، وطلب من زوجته إحضار ثلاث روايات من منزله الملاصق للمستشفى، إحداها كانت «بداية ونهاية»، والثانية «اللص والكلاب»، ولا أتذكر الثالثة، ويومها أملى الأستاذ الإهداء ولم يستطع الإمساك بالقلم ليوقع، فوقع الناقد رجاء النقاش الذى تصادف وجوده بدلًا منه، فى نهاية اللقاء صافحنى بحرارة قائلًا بجدية: «لابد وأن أحدهم يقرأ»!
عدت لمكتبى وقرأت الإهداء، شعرت بعظمة الرجل، وازداد انبهارى به، ووجدت أن واجبى تحريز الروايات المهداة على ذمة القضية لتكون تحت بصر القاضى الذى سينظر القضية بالمحكمة لتشكل وجدانه، ويرى بوضوح الفرق بين العالم والجاهل، بين الأديب المبدع المتسامح والهمجى صاحب الأفكار الرجعية المتخلفة، بين من يريد إعادتنا قرونًا للوراء ومن يريد إصلاحًا حقيقيًا، يومها أملى أستاذنا الكبير على رجاء النقاش جملة الاهداء قائلًا حسبما دونت بأوراقى الخاصة:
«إلى من يخالفنى الرأى أهدى سطورًا كتبتها لمصلحة مجتمع لن ينصلح حاله إلا بالثقافة».
أدركت وقتها أن الأستاذ الذى ظل يلح علىّ لمعرفة الدوافع كان يعرف أكثر، ولخص الدواء للداء فى جملة جامعة مانعة، وصمم على استكمال رسالته بإهداء كتبه لمن كفروه، لكننا لم نستمع جيدًا لنصيحة نجيب محفوظ، فلم ينصلح حالنا من يومها.