الدوحة بدأت ملف كأس العالم برشوة الفيفا وأنهته بإهدار دماء وحقوق مئات العمال الآسيويين، لم يتأكد بعد شكل الصفقة السياسية التى ستبرمها أطراف الصراع فى سوريا، وهى الصفقة، التى يليها على الفور الحديث عن تحديد مسؤولية إعادة الإعمار، خاصة أن الحلف الخليجى الذى تقودانه قطر والسعودية، الذى بدأت كفة الاتهام بالتسبب فى الوضع الحالى تميل ناحيته، لم يعترف بعد بالهزيمة فى حلب، ورغم المشهد «المهين» لأفواج المقاتلين وهم يهربون وسط المدنيين فى باصات الإجلاء ليبدو وكأن الكل مدنيون، إلا أن مراقبين يعتبرون هذا الخروج الذى صورته الكاميرات، بمثابة أول إعلان واقعى عن ذهاب أموال دافعى الضرائب فى قطر أدراج الرياح بعدما أنفقها مسلحون خرجوا مستسلمين بهذا المشهد اليائس.
هذا المشهد كان حلقة فى مسلسل التفكك السورى، جاء أيضًا كضربة سوط أخرى تلقتها الدبلوماسية القطرية، التى حاولت قدر الإمكان التنصل - ولو خارجيا على الأقل - من دعم المسلحين فى سوريا، خوفًا من اتهامات لاحقة بدعم متطرفين يرتكبون جرائم ضد الإنسانية، حسب الوصف الروسى، الذى يرتكن إلى هذه النقطة لإضعاف موقف الحلف الخليجى داخل أروقة الأمم المتحدة، وتسبب فى مأزق للجانب القطرى الذى لم يضع فى حسبانه هذه الضربات المتلاحقة، التى تظهر الدور الحقيقى للدوحة فى تدمير سوريا، مما قد يضع أمام قطر مسؤوليتها فى التعويض عن هذا الدمار بتولى الجانب الأعظم من إعادة الإعمار، على الأفل لتغسل الأموال القذرة، التى مولت بها المتطرفين.
بدأ مسلسل الكشف عن «الأموال القطرية القذرة» من خلال التغطيات المكثفة لوسائل الإعلام القطرية أو تلك المدعومة من الدوحة، للوضع فى سوريا تحت شعار «الثورة» وتبنيها لوجهة نظر واحدة مصدرها مؤسسات إغاثية ومتحدثون باسم الحركات المسلحة، وتسببب هذه التغطية الأحادية فى إظهار هذه الحركات وكأنها على مشارف النصر كل يوم، وفى حالة أن جاءت الأخبار سيئة نوعا ما لجأت وسائل الإعلام هذه للدفع فى اتجاه أزمة المحاصرين واستهداف المدنيين من قبل النظام السورى، وكان الهدف الأكبر من هذه التغطية المنحازة أن يظل القطريون فى تعاطفهم مع قرار نظام تميم بن حمد بدعم المسلحين رغم المخاوف الأخلاقية المستقبلية، ورغم التجارب السابقة، حيث نشأ أخطر تنظيم متطرف وهو «القاعدة» فى ظروف مشابهة، لكن فى الدوحة كان ضروريا خداع الناس حتى لا تأتيهم تلك المخاوف، ولكى يواصلوا التنازل عن أموالهم لصالح شعار «مستقبل أفضل لسوريا دون طغيان الأسد»، بينما الذى حدث ولم يتوقعوه أنهم تبرعوا ومنحوا الشرعية لتمويلات بلادهم المتدفقة إلى حلب، ليتفرق المتطرفون فى أنحاء سوريا ويعيش نظام الأسد بشرعية جديدة فرضتها المواقف على الأرض خلافا للوهم، الذى كانت تسوقه لهم الجزيرة وأخواتها.
ومع سعى نظام تميم للملمة خسائره فى سوريا، وخيبة أمله فى محاولات إشاعة الفوضى فى مصر عبر حملة تحريض ممنهجة من ذيول هاربة فى الدوحة وأنقرة، كان المأزق هذه المرة من الداخل، حيث مفاجئا فى وقت غير مناسب، حين بدأ القطريون يكتشفون زيف الانتصارات فى حلب بعد استعادتها من النظام السورى، ومن بعدها إعلان قطر عن موازنتها العامة بعجز يصل إلى 28 مليار دولار، وهو رقم لم يعهده القطريون، وبالتالى بدأت تساؤلاتهم عن جدوى الإنفاق على معارك خاسرة يصورها الإعلام على أنها انتصارات، ثم تضاعف الحرج بعد إعلان مواطنين فرنسيين رفضهم تبرع الأمير الوالد حمد بن خليفة لقريتهم بمليون دولار لصناعة طعام مدرسة من مواد عضوية، لمجرد أنه يمتلك منزلا بهذه القرية، مما دفع القطريين للتساؤل حول معايير الإنفاق عند الأسرة الحاكمة فى ظل دعوات للتقشف وتقليل الهدر تزامنًا مع التقلبات الاقتصادية العالمية وتراجع أسعار النفط.
بعد كشف الخديعة الإعلامية الكبرى توالت الضربات الفاضحة للدور القطرى فى استغلال ما يطلق عليه «الربيع العربى»، حيث تواترت لقطات فيديو مسربة من داخل سوريا لمسلحين يشكرون قطر على دعمها لهم بالمال والسلاح، وآخرين يتبادلون الاتهامات حول التقسيم الجائر للتمويلات، ثم يأتى التأكيد على تدفق هذه التمويلات، فى شهادة خوان زاراتى، المستشار السابق فى إدارة الرئيس جورج بوش الابن، حيث أكد فى مقابلة تليفزيونية أن قطر فى صدارة الدول، التى تمنح تمويلات للمتطرفين والإرهابيين، حتى أنه ذهب لربطها بتنظيم القاعدة والجماعات المتحدرة منها.
أما الرأى الذى شكل هزة كبيرة لادعاء قطر حول دعمها للحريات، ما كشفته أوساط أوروبية حول تمحور الصراع فى سوريا حول مد أنابيب خط الغاز القطرى عبر سوريا وتركيا، مقابل مشروع آخر كان يستهدف نقل الغاز الإيرانى عبر نفس المسار، لكن تحالف المال الوفير مع الضحالة السياسية الأكثر وفرة بين قطر وحلفائها، جعلا من 400 ألف قتيل سورى بلا ذنب وقودا للمنافسة على مصالح اقتصادية، استغلت الدوحة من خلالها الشعور العربى بضرورة التغيير ونجاحه فى مصر وتونس، كما حاولت تجميل ما يجرى فى سوريا وليبيا واليمن بوصفه جهادًا مقدسًا من أجل الحرية والديمقراطية، فى حين أن المدنيين الذين تدهسهم الحرب فى تلك البؤر المشتعلة لا قيمة لهم إلا فى عناوين الأخبار.
وفى مقابلته التليفزيونية مع كريستين أمانبور، مذيعة قناة CNN الأمريكية، لم يكن تميم بن حمد، أمير قطر، يدرك أنه سيتورط فى أخطر موقف محرج حين قال إنه يفرق بين المتطرفين وغيرهم وأن أموالهم المتدفقة لسوريا لا تذهب للإرهابيين، حيث نشرت القناة فى ذات المقابلة فيدوهات للمتطرفين يعترفون بـ«فضل» قطر عليهم، ويشكرونها على دعمهم لكى يتمكنوا من حمل السلاح، ومما ضاعف من حرج هذا الموقف تقرير آخر ظهر قبل أيام لصحيفة الإندبندنت البريطانية، قالت فيه إن معلومات استخباراتية ألمانية مُسربة كشف دعم قطر ودول خليجية للجماعات المتطرفة فى ألمانيا.
وجاء السجال حول «ارتكاب جرائم حرب وممارسات ضد الإنسانية» فى توقيت مناسب لتستغله موسكو فى فى إعلانها صراحة أنها لن تدفع وحدها فاتورة نزيف «سوريا»، وعليه نقلت روسيا اللعبة لمربع آخر وسارعت بالقول على لسان مندوبها فى الأمم المتحدة فيتالى تشوركين إن إعادة الإعمار فى سوريا تتطلب تسويات سياسية تبقى على النظام وتطرح تنازلات ترضى المعارضة «غير المسلحة»، وتتطلب أيضا 180 مليار دولار لا يستطيع بلد أو اثنان تحملها، وبالتالى فهو يحتاج لحملة «دولية» فى تلميح لمسؤولية الدول التى كانت - من وجهة نظر روسيا - سببا فى أزمة سوريا بتسليحهم لفصائل متطرفة تحت غطاء المعارضة والحراك الثورى.
وبدأت الرقعة تتسع على الدوحة لم تعد تستطع ملاحقتها رتقا بالماكينات الإعلامية، أو حتى التباهى بمعرفة الفرق بين المتطرفين والسلميين فى سوريا، فقد جاء بيان الاتحاد الأوروبى عن سعيد للمشاركة فى جهود إعادة الإعمار بتحذير من عدم القدرة على التوصل إلى سلام مستقر بسوريا، لأن البلاد ستواجه حرب العصابات لسنوات طويلة، فى حال رفضها تخفيف مركزية السلطة وإعطاء مجال لأنشطة المعارضة داخل البلاد»، وقال مسؤول أوروبى لوكالة «رويترز» تعليقا على نص البيان: «فى الظروف الطبيعية يجب على الاتحاد الأوروبى أن يلعب دورا محوريا فى إعادة الإعمار.. لكن إذا أنشأوا كيانا مشوها هناك، فنحن لن ندفع تكاليفه»، هنا ينتهى كلام المسؤول الأوروبى، لكنه يبدأ مرحلة أخرى من تغيير لغة الحديث عن المعارضة داخل سوريا، حيث جاء التحذير من «حرب عصابات» أقرب إلى تهديد وتوصيف حقيقى لما آل إليه حال المعارضة خارج دمشق.
وتسببت اللغة الأوروبية المتراجعة تزامنًا مع الاقتراح الروسى فى ارتباك واضح للجانب القطرى، الذى حاول التملص من مسؤوليته عن دمار سوريا، والمبادرة بنفى تهم ارتكاب ممارسات ضد الإنسانية بدعمه لمسلحين دون التدقيق فى ولاءاتهم، سارعت الدوحة مدعومة بدولة «ليختن شتاين» وعدد من الدول العربية والغربية مشروع قرار إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لمحاسبة مجرمى الحرب فى سوريا، وحسبما نقلت وسائل إعلام مقربة من الديوان القطرى فإن مشروع القرار طالب بما أسماه «آليات واضحة ومحايدة لمحاسبة المتورطين بارتكاب جرائم حرب فى سوريا، ودعوة النظام السورى للتعاون مع آلية التحقق». ويعتبر محللون أن المبادرة القطرية تأتى خوفا من «تدقيق» وإعادة فتح ملفات سابقة لقطر، فيما اعتبروه دعما ماليا لعدد من الاضطرابات، التى شهدتها المنطقة العربية، وقد استغلت قطر هذه الاضطرابات لتحقيق مكاسب مادية أكثر مما أنفقته على إثارة القلق، وتلكى تضفى الدوحة شرعية على هذه الأموال، فإنها تستغل غطاء العمل الخيرى وجهود الإغاثة، حيث تشير تقديرات إلى إنفاقها أكثر من 2 مليار دولار خلال عام على هيئة تمويلات ومنح ذهب لمنظمات إغاثية وخيرية فى الصومال وسوريا وليبيا.
وجاءت حالة ليبيا لتمثل تفسيرًا قاطعا يرد على المتشككين فى موقف قطر من الاضطرابات العربية، حين ظهرت ليبيا على خريطة الاستهداف الربحى النفطى لقطر حين اشترت 3% من أسهم شركة توتال الفرنسية، والتى تستحوذ بدورها على 35% من النفط الليبى بعد سقوط القذافى، والذى تلاه اضطرابات حادة وفوضى عارمة بسبب النزاع بين الشرعية شرقًا وفصائل متطرفة مسلحة غربًا وجنوبًا، وسط أنباء تتردد عن دعم قطر لفصيل الإخوان المسلح هناك، لكن الدوحة لم تتحل بالصبر فسارعت لكى تتورط فى رفضها رسميا لأى مقترحات بشأن نزع السلاح من أيدى المتطرفين فى ليبيا.
ويكتشف المراقب للتدخلات القطرية فى ليبيا أنها حلقة ضمن سلسلة من الجهود الرعناء للدوحة لإفساد المحيط المصرى، وما يستدعيه من إشعال ما يمكن إشعاله من توترات تدعم السعى القطرى لتنفيذ أجندة غامضة أول أهدافها التقليل من دور القاهرة المحورى فى المنطقة، فجزء كبير من تمويلاتها تذهب لبث الشائعات وتضخيم المشاكل ونشر الإحباط فى الداخل المصرى عبر وسائطها الإعلامية، ومحاولات مستميتة لتفعيل الحصار الاقتصادى، وتشويه صورة مصر فى الخارج، وهو ما قابلته الجبهة المصرية الداخلية بوعى وازدادت تماسكا، خاصة بعدما رأى الناس بأعينهم المصير السورى، الذى كانت قطر جزءا فاعلا فيه، ثم تتملص الآن من الاعتراف بالخطأ لكى لا تتحمل جزءا من تكلفة التعويض فى المستقبل القريب.
وفى المستقبل القريب أيضًا لن تستطيع قطر أن تقنع المجتمع الدولى أنها تسعى لمحاسبة مرتكبى جرائم الحرب فى سوريا، لأنها لم تتخلص بعد من إرثها الداخلى البغيض فى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وخروقات لحقوق العمال فى ملف إنشاءات كأس العالم 2022 - المشكوك فى نزاهة اختيارها لاستضافته - ومآسى العمال الذين وصفتهم تقارير إخبارية بأنهم عادوا لبلدانهم «جثث فى توابيت خشبية عائدة من صحراء الموت» كضحايا للعمل فى ظروف سيئة وأجور متدنية واستغلال للكفيل والوسطاء، ولما أرادت قطر أن تعالج المسألة اكتفت بتغيير قانون الكفالة وناقشت مع نيبال التعاون المشترك فى حقوق الإنسان، دون التطرق لمعالجة مسألة الانتهاكات العمالية أو حتى الاعتراف بالخطأ فى حق العمال الآسيويين لديها.. وبهذا المنهج سيظل النظام الحاكم فى الدوحة يغطى على كل خطأ بخطيئة أكبر طالما لا يمتلك أصواتًا عاقلة بداخله تخبره متى يمكنه التوقف عن استخدام المال لتدمير الشعوب.