وإلى نص الكلمة:
سِــيَـادَة الأُسْتَاذَة الدُّكتُور/ أورسولا نيليس الموقَّرة
رئيس جامعة مونستر
السَّـادَةُ العُـلَمَـاء أَعضَــاء هَيْـئَـة التَّـدْرِيس
البَنَات والأبنَاء مِنْ طالِبَات وطُلَّاب الجَامِعَة
السَّلاَمُ عَـلَـيْكُم وَرَحْمَةُ اللهِ وَبرَكَاتُه
أُحَيِّيكُم جَمِيعًا، وأتقَدَّم بِخَالِص الشُّكْر والتَّقدِير إلى أ.د/ نيليس لتكرمها بِدَعوَتى للمُشارَكة فى هذا المُلتقَى العِلْمِيِّ، والتحَدُّث إِليْكُم والاسْتِمَاع مِنكُم، حَوْلَ أَخْطَر قَضِيَّة تأخذ بخناق عالَمنا المُعَاصِر، وتَتحَدَّى كُل إِنجَازَاته الحضَاريَّة، بَل تكَاد تُلْقِى بِهَا فى مَهَبِّ الرِّيح، هَذِه القَضيَّة هِى قضيَّة «السَّلَام» الإقلِيمِى والدَّولِيِّ، وحِمَايَةِ الحضَارات الإِنسْانيَّة مِمَّا يُتربَّص بِهَا مِنْ مَخَاطِر عَدِيدَة، على رأسها الإِرهَاب العَابِر للقَارَّات، والَّذى إنْ تُرِكَ يَنْمُو ويَقْوَى فإنَّ النَّتيجَة الحَتْمِيَّةَ هِى «عَودة البَشَرِيَّة كُلها إلى حَالَة مِن الهَمَجِيَّة والفَوضَى، رُبَّمَا لَا يَعْرِفُ التِّاريخ لهَا مَثِيلًا مِنْ قَبْل».
.. .. ..
وَاسْمَحُوا لِى أيُّهَا السَّادَة العُلَمَاء والمُفَـكِّرُون، أَنْ أَطْرَح رُؤيَـتِى فى هذا المَوضُوع بأسلُوب غير تقليديِّ، وَهِى رُؤيَة تكَوَّنَت لَدى من انشِغالى بقَضيَّة البَحْث عَن «السَّلَام»، الَّذِى افتَقدْتُه طَويلًا، خَاصَّةٍ فى السَّنَوات الأَخيرة الَّتى أصْبَحَت فيهَا شَرْقنا العَربى مَسْرَحًا يَوميًّا لِلدِّمَاء والدَّمَار والمَوت والخَرَاب.
إنَّ المُتحَدِّث الَّذِى يَقِفُ بَين أيديكم –أيها السادة - يُمَثِّل جِيلًا كَامِلًا، قَد لَا أَعْدُو الحَقِيقَة لَوْ قُلْت إنَّهُ لَمْ يَنْعَم بالسَّلَام حِينًا، إلَّا كرت عَليه الخطوب والحُروب أحْيَانًا كَثيرَةً، وذَلِكَ فى غَيْرِ مَا سَبَب مَعْقُول ولَا مَنطِق مَقبُول لَقَدْ شَهِدتُ، وأنا طِفْلٌ لَمْ أُكمِل العَاشِرةَ بَعدُ، العُدوَانَ الثُّلَاثِى عَلَى مِصْر عَام 1956، وعَانَيتُ مع أقْرَانِى مِنْ صُوَر الفَزَع والرُّعبَ مَا لا أُريد أنْ أسْتَعيدُه فى ذاكِرَتى وأنَا فى العَقد السَّابِع من عُمْرى الآن، وَلَمْ تَمُرّ أعوامٌ عَشْرٌ حَتَّى دَهمَتنا حَرب 1967، وعِشْنَا بَعْدهَا سَنوات خَمْسًا فى أجْوَاء خَانِقة ثَقِيلَة مُحْبِطة، فَقَد ضَاعَت سَيْنِاء بأكمَلهَا فى طَرْفَة عَيْنٍ، وأصْبَح الخَطَر على الأبْوَاب، وعِشْنَا اقتِصَاد حَرب لَا يَكَاد يُلَبِّى الحَاجَات الضَّرُورِيَّة، وإنْ أَنْسَى لَا أَنْسَى تَدْمِير مَدْرَسَةٍ عَلى كُلّ مَن فِيهَا مِنْ التَّلَامِيذ مِن البَنَاتِ والبَنين.
ثُمَّ جَاءَت حَرْبُ التَّحْريرِ عَام 1973، وكَان لهَا مَذَاقٌ مُختَلِفٌ هَذِه المَرَّة، عَرفْنَا مَعَهُ لأَوَّل مَرَّة مَعْنَى الانتِصَار وزَهْوَ اسْتِردَادِ الكَرَامَةِ.. وظَنَّنَا بَعد ذَلِكَ أنَّ الشَّرق العَرَبى دَخَل بِالفِعْلِ مَرْحلَةَ الاسْتِقرَار والتَّنمِيَةِ الشَّامِلَةِ، واللَّحَاق بقِطَار التَّقَدُّمِ والسَّلَامِ والرَّخَاء، غَيْرَ أنَّه سُرعَان مَا أظلتنا حُروب جَدِيدَة مِنْ نَوعٍ آخَر، وبِنظَريَّات حَدِيثَة، لَا يَتوجَّه الصِّرَاع المُسَلَّح فِيهَا إلى عَدو خَارجِيِّ، بَل يَرتَدُّ إلَى الدَّاخِل بَيْنَ أبنَاء الوَطَن الوَاحِد والشَّعْب الوَاحِد، بَعد أَنْ تُمَهَّد الأرض وتُفْرَشُ بِبُؤَر التَّوَتُّر المَذْهَبِيِّ، والنِّزَاع العِرْقِى والطِّائِفيِّ، وتُصَدِّرَ الأسْلِحَةُ لِأطْرَاف الصِّراع، لِتَبْدَأ بَعْد ذَلِكَ حُرَوبٌ ضَارِيَةٌ تَأتِى عَلَى الأَخضَر واليَابِس.
ويُحَارُ العَقْلُ السَّوِى فى البَحْثِ عَنْ سَبَب واحِد مَنطِقِيّ، لِهَذا الدَّمَار الَّذى حَلَّ بأغْلَب دول المَنْطِقَة، فالتَّخَلُّص مِنَ الأنظِمَة الدِّيكتَاتُوريَّة لَا يتطَلَّب قَصْف الشُّعُوب الآمِنَة بالطَّائِرات، وهَدْمَ البُيُوتِ عَلَى رُؤوسهم ورؤوس نِسَائهم وأطفَالهم، والطَّوائِف العِرقِيَّة والمَذْهَبيَّة طَالَمَا تعَايشَت فى هَذِهِ المَنْطِقَة فى أمَانٍ وسَلَام دهرًا طويلاً، والأديَانُ والمَذَاهِبُ لَيْسَت وَلِيدَة اليَوم، وإنَّمَا هِى قَديمَة قِدَم هَذِهِ الأديَان والمَذَاهِب، وَقَد عَاشَت هِى الأُخرَى فى سَلَام تَحْت ظِلَال الحَضَارة الإِسْلَامِيَّة، لَمْ تُرزأ فى مُعتَقداتها، وَلَا مُقدَّرَاتها، بَلْ كانَت عُنْصر ثَراء وتَمَاسُك فى بنيَان المُجْتَمَع ولُحْمَته ونَسِيجِه المُشْتَرك.
كَمَا يُحَارُ العَقْل فى تَفْسِيرِ تَزامُن انْدِلَاع هَذِه الحُروب فى مَنْطِقَة وَاحِدة، وَبينَ أبنَاء الشَّعب الوَاحِد؛ دُونَ سَائِر الشُّعُوب عَلَى وَجْه الأرْض!!.
وَقَد وَضَعْتُ خَريطَةَ العَالَمِ مَرَّة أَمَامِي، وَرُحْتُ أَبْحَث بَين قارَّاتها عَن مَنْطِقَة أَسْمَع فيها قَعْقَعة السِّلَاح، أو أرَى شَلَّالَات الدِّمَاء، أو أتابع طَوابِير الفَارِّين والهَائمين عَلَى وجُوههم فى الصَّحَراء تَحت الثُّلُوج والأمْطَار بِلَا مَأوى ولَا غِذَاءٍ ولَا دَوَاء، فَلَمْ أَجِد مَسْرَحًا لِهَذِه المَآسِى غَيْرَ الحِزَام العَربى والإسْلَاميِّ.
وتسَاءَلتُ هَل كَانَت مَنْطِقَـتُـنا تَمُرّ بِظُروفٍ أَو تَغيُّرَات تَفرِض عَلَيْهَا حُروبًا كَتِلَكَ الَّتى بَدأت ولَا نَدرِى مَتَى تَنْتَهِي؟ وَهَل الثَّورَةُ عَلَى نِظَام مِنْ أنظِمَة الحُكْم فى عَصْرنا هَذا يُشْعِلُ فى البِلَاد حُروبًا داخِليَّة لأَعوامٍ عِدَّةٍ لَا يَتَوقَّف فيهَا شَلَّال الدَّم يَومًا أو بعض يَوم؟! إلى أَسْئِلَة كَثيرَة تَبحَث حَتَّى الآن عَنْ إِجَابَة مَنطِقيَّة فَلَا تَجِد، واليَقِين الوَحِيد الَّذى اصْطَحَبتُه مَعِى فى خِضَمِّ هَذِه الأَسْئِلَة الحَيْرَى، أنَّ الإِسْلَام –أَو الأديَان– لَا يُمْكِن بِحَالٍ مِنْ الأَحْوَال أَنْ يكُون مِنْ ورَاء هَذا الجَحِيم الَّذى انْدَلَع وفَقَدَ السَّيْطَرة عَلَيْه، وإنْ كَان المُسْتَفيدُون مِن ِهَذِه الحُرُوب قَد بَرعُوا فى اسْتِغْلَال الدِّين كَوَقُود يَضْمَن اشْتِعَال الحَرب واسْتِمْرَار الخَرَاب والدَّمَار.
وَلَا أُرِيد –أيُّهَا السَّادَة الأَكَادِيميُّون العُلَمَاء – أنَّ أُطِيل عَلَيْكُم فى سَرْدِ هَذِه الشَّوَاهِد المَأسَاويَّة الَّتِى تَعيشهَا مَنْطِقَة الشَّرْق الأَوسَط، فَأنْتُم تَعْلَمُونهَا، رُبَّمَا بِأعْمَق وأدَقّ مِمَّا أَعْلَم، وَلَكِن أُريد أنْ أَقُول إنَّه لَيْسَ صَحِيحًا أَنْ يَتوَجَّه بَحْثُـنَا عَنْ أَسْبَاب السَّلَام المَفْقُود فى تعَالِيم الأديَان السَّمَاويَّة، وإنَّمَا يَجِب البَحْث عَنْهُ فى الظُّرُوف السِّيَاسِيَّة وتضاربهَا إِقْلِيميًّا وَدَوليًّا، وسِيَاسَات الهَيْمَنَة العَالَمِيَّة، وفى المَذَاهِب الاقتِصَادِيَّة المُنْفَلِتَة مِنْ ضَوَابِط الأَخْلَاق، والَّتِى لَا يَجِد دُعاتهَا وفَلاسِفَتهَا ومنظروهَا أى حَرَجٍ فى أنْ تَسْعَد قِلَّةٌ مِنْ البَشر عَلَى حِسَاب الكَثرة الكَاثرة مِنْهُم، وأنْ يُكرّس الغِنَى والثَّرَاء والعِلْم والتَّقَدُّم والرَّخَاء فى الشَّمَال، ويُكَدَّس الفَقْر والمَرض والجَهْل والبُؤس فى الجَنُوب، يَجِب أنْ نَبْحَث عَنْ أسْبَاب غِيَاب السَّلَام فى هَذَا الخَلَل المُقَنَّن بَيْنَ ضِفتى المُتَوسّط، بَل نَبْحَث عنه فى سُلُوك الحضَارات الكُبْرَى المُعَاصِرة الَّتِى لَا تَجِد بأسًا فى اخْتِراع عَدو مَوهُوم، تُدِير عَلَيْه رَحَى الحَرب وتُصَدِّر لَه الصِّرَاع بَعِيدًا عن أراضيها حَتَّى تظفر هِى بِوحدة الصَّف وبِسَلامها الاجتِمَاعى الدَّاخِلِى فى مُوَاجهَة عَدوِّها الخَارِجي.
إنَّ هَذِه التَّعقِيدَات الدَّولِيَّة، الَّتِى أَشَرْتُ إلَى بعض انعكَاسَاتها السَّلْبِيَّة، مَسْؤُولَة عَنْ كَثير أو قَلِيل مِنْ مُعَانَاة العَالَم العَرَبِى والعَالَم الإِسْلَامِى الآن، وَبِإمكَان مُؤَسَّسَة الأُمَم المُتَّحِدَة، الَّتِى أُنْشِئَت مِنْ أَجْلِ حِفْظِ الأَمْن والسَّلَام الدَّولِيَين، أنْ تسْهم فى احتِواء مُشْكِلَات الشَّرق الأَوسَط وتُحَاصِر نِيرَانه وتنقِذ الأرَامِل والثَّـكَالَى واليَتَامَى الَّذين لَا نَاقَةَ لَهُم ولَا جَمْل مِن وَرَاءِ هَذا الصِّرَاع.
.. .. ..
أَيُّهَــا السَّـــادَة!
أَرْجُو أَنْ تَعْذُرُونِى فى صَراحَتِى هَذِه الَّتِى رُبَّمَا تَجَاوزَت المُتَعَارَف عَلَيْه فى هَذِه المُخَاطَبَات، وعُذْرِى أَنَّنِى أَتَحدَّث إلَى زُمَلَاء وَعُلَمَاء لَا أَعْتَقِد أنَّ مَنْهَجهُم فى بَحْث القَضَايَا الشَّائِكَة يَسْمَح بِانتِقَاء بَعض الفُروض وإغفَال البَعض الآخَر فى اسْتِخْلَاص النَّـتَائِج الصَّحِيْحَة.. مِن هُنَا وَجَبَت المُصَارَحة، وهَذا الَّذى صَارَحتكُم بِه هُو رأى الغَالبيَّة السَّاحِقَة مِن المُثَقَّفِين والمُفَكِّرِين والمُحَلِّلِين فى الشَّرق، وتُقَدِّمَه وسَائِل الإِعْلَام وشَبَكَات التَّواصُل الاجتِمَاعِى وكأنَّه أَمْرٌ ثَابِتٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
أمَّا عَن مُقَومَات السَّلَام فى الأدْيَان، فَإِنَّ هَذَا المَوضُوع لَا أْسَتَطِيع اليَوم أَنْ أَزِيد فِيه كَلِمَة وَاحِدة عَمَّا قُلْتُه وكَرَّرتُه فى مُؤتَمَرات حوار الأَدْيَان فى عَواصِم أُوروبَا وأمريكَا وآسيَا، على مَدَى خَمْسَة عَشْر عَامًا خَلَت، وحَتَّى لَا أُرْهِق مَسَامِعَكُم اسْمَحُوا أَنْ أُلَخِّص عَقِيْدَتِى فى هَذَا المَوضُوع، مِن خِلَال الدِّين الَّذى أَنْتَسِبُ إِلَيْه، وَأُؤمِن بِسَمَاحَته وَرَحْمَته للعَالَمِين:
فَأوَّلًا: إِنَّ الأدْيَان السَّمَاويَّة مَا نَزَلَت إلَّا لترسِم للإنْسَان طَريق السَّعَادَة فى الدُّنيَا والآخِرة، وتُعَلِّمَه قِيَم الرَّحْمَة والحَقّ والخَيْر، وأنَّ الله كَرَّمَه عَلَى سَائِر الكَائِنَات الأُخْرى، واتَّخَذَه خَلِيفَة لَهُ عَلَى الأرْض، وَحَرَّم دَمه ومَاله وعِرْضه.. وإذَا سَمِعْتُم أو قَرَأتُم أَنَّ دِينًا مِن الأدْيَان السَّمَاويَّة سَمح بِإراقة الدِّمَاء واغْتِيَال الحُقُوق فَاعْلَمُوا أَنَّ هَا هُنَا تَدْلِيْسًا فى تَصْوير حَقِيْقَة هَذَا الدِّين.
ثَانِيًا: نُؤْمِن نَحْنُ المُسْلِمين بِأَنَّ الإسْلَام لَيْسَ دِينًا مُنْفَصِلًا عَن الأَدْيَان السَّمَاويَّة السَّابِقَة عَلَيْه كَالمَسِيْحِيَّة واليَهُودِيَّة والإبْرَاهِيمِيَّة، بَل يُعَلِّمُنَا القُرآن أَنَّ الدِّين الإِلَهِى دِيْن وَاحِد اسْمُه الإسْلَام، بِمَعْنَى: الخُضُوع لله تعَالَى وعِبَادَته، وإسْلَام الوَجْه إِلَيْه، وَأَنَّ مَا يُسَمَّى بِالأدْيَان فى مُحَادثَاتنا هُوَ: رِسَالَات إِلَهِيَّة تُشَكِّل حَلَقَات مُتَّصِلَة فى سِلْسِلَة الدِّين الوَاحِد..
وَمِن هُنَا وَجَـدْنَا الإسْلَام يَتَّفِق مَع الرِّسَالَات السَّابِقَة عَلِيْه فى أُصُول العَقَائِد وأُمَّهَات الأَخْلَاق، ويَرْتَبِط بها ارتباطًا عضويًّا، فَالإِيمَان بالأنبياء والرُّسُل السَّابِقِين وبِمَا أُنْزِل عَلَيْهم مِن الكُتُب السَّمَاويَّة جزء لا يتجزأ من إيمان المسلم بِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-وبالقُرآن.
بَلْ يُحَدِّثُنا القُرآن بِأن مَا شرعه الله من الدِّين لِمُحَمَّدٍ هَوُ نَفْس مَا شرعه لِنُوح وإبرَاهيم ومُوسَى وعِيْسَى عَلَيْهم جَمِيْعًا أفضَل الصَّلَاة والسَّلَام، وهَذَا مَا يُفَسِّر لنَا انفِتَاح الإسْلَام عَلَى الأدْيَان السَّمَاويَّة السَّابِقَة عَلَيْه وبِخَاصَّةٍ: المَسِيْحِيَّة، مِمَّا نَعْلَمُه جَمِيْعًا وَلَا نَحْتَاجُ إلى بيَانه لظُهوره ووضُوحه.
ثَالِثًا: فى القُرآن حَقَائِق ثَلَاث يَترتَّب بعضها على بعض، تتعلَّق بِنَظْرة الإسْلَام للبَشَريَّة، وتجدِيده لِنُوع العَلَاقَة الَّتى يَجِبُ عَلَى المُسْلِمين أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهَا فى مُعَامَلاتهم مع غيرهم: الحَقِيْقَة الأولى: هِى أنَّ مَشِيْئَة الله فى خَلْقِه قَضَت أنْ يَخلقهم مُختَلِفين فى الدِّين والعَقِيدَة والَّلون والُّلغة والجِنس، وأنَّ هَذا الاختِلاف لا يتبَدَّل وَلَا يَزُول، والحَقيقة الثانية المترتبة ترتبًا منطقيًا على ذلك هى أنه لا مفر –والحالة هذه – من أن تكون العلاقة بين هذه القبائل والشعوب هى علاقة «التعارف» التى تعني: التعاون المتبادل، وقد نص القرآن على هذه العلاقة وعبَّر عنها بلفظة «التعارف» فى الآية (13) من السورة (49)، والعلاقة بين هاتين الحقيقتين علاقة تلازم منطقى صارم، لأنه لا يُتصور أن يخلق الله الناس مختلفين فى الأديان، وفى الوقت نفسه يبيح لهم أن تتحول العلاقة بينهم إلى علاقة صراع أو قتال أو علاقة حرب، فهذا تناقض بين حرية التعدد فى المعتقد، ومصادرة هذا الحق فى حالة القتال الذى ينتهى إلى حمل الناس على عقيدة واحدة.. وهنا تظهر حقيقة تاريخية هى أن المسلمين لم يشهروا السيوف فى وجوه غيرهم بسبب معتقداتهم أو أديانهم، اللهم إلا إذا تحول الغير إلى عدو يقاتل المسلمين، فهاهنا القتال بسبب الاعتداء وليس بسبب الدين.. أما الحقيقة الثالثة التى ترتبط بالحقيقتين السابقتين ارتباط النتيجة بالمقدمات فهى حرية الاعتقاد، وتكفل الإسلام بحمايتها، ولعلى أذكِّر بأمر تحفظونه عن ظهر قلب حين أذكركم بالآيتين:?لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَى ?،?فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ?، وحديث محمد صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَرِهَ الْإِسْلَامَ مِنْ يَهُودِى وَنَصْرَانِيٍّ، فَإِنَّهُ لَا يُحَوَّلُ عَنْ دِينِهِ».
رابعًا: يقرر القرآن أن الله سبحانه ما أرسل محمد إلا رحمة للعالمين، وكلمة العالمين أوسع بكثير من كلمة المسلمين، بل هى فى الفلسفة الإسلامية أعمّ من عالم الإنسان، حيث تشمَل عَالَم الحيوان والنبات والجماد، جاء فى القرآن الكريم خطابًا لمحمد صلى الله عليه وسلم: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وقال محمد صلى الله عليه وسلم مخاطبًا الناس جميعًا: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» ويضيق المقام بالطبع عن السلوم المذهل الذى كان يسلكه نبى الإسلام مع هذه العوالم، وأكتفى بالإشارة -فقط- إلى تعاليمه فى حرمة قتل الكبير والضعيف والمرأة والصبى والأعم فى جيش الأعداء، وحرمة قتل حيواناتهم، إلا لضرورة الطعام وعلى قدرها، وحرمة هدم بيوتهم وتخريبها وقلع نباتهم وتفريق نحلهم.. والعجيب أن يأتينا درس الرحمة بالإنسان والحيوان والنبات والجماد من موطن لا تُستاغ فيه الرحمة فى حكم العادة، وهو حالة الحرب والعداء التى يُستباح فيها من القسوة ما لا يستباح فى غيرها. ولكنها «الرحمة المهداة» التى بسطت رداءها على العالمين وكان للعدو منها نصيب.. هذا النبى الرحيم بالحيوان أخبرنا أن امرأة دخلت النار فى هِرَّة حبستها، فلا هى أطعمتها ولا هى تركتها تأكل من خشاش الأرض، وأخبر أن رجلاً سقى كلبًا فى يوم حر شديد فغفر الله له وأدخله الجنة..
خامسًا: لم تقتصر توجيهات القرآن فى ربط الإسلام بالسلام على أصل الرحمة، ويترك المسلمين وشأنهم يتحلون بهذا الخلق الإنسانى الرفيع أو يتخلون عنه مضطرين أو مختارين، وإنما كثف من لفظ «السلام» ومفهومه فى القرآن بشكل لافت للنظر، حتى أصبح الإسلام والسلام وجهين لعملة واحدة إن صح هذا التعبير، ويكفى للتدليل العاجل على ذلك أن نعلم أن كلمة «السلام» بمشتقاتها وردت فى القرآن مائة وأربعين مرة مقابل كلمة «الحرب» التى وردت بمشتقاتها (6) فقط، ومن هنا لم يكن مستغربًا أن يقرر الإسلام مبدأ «السلام» كأصل فى معاملة المسلمين وعلاقاتهم بغير المسلمين، وأن فلسفة القرآن لا مكان فيها لعلاقات الصراع والقتال مع المسالمين من غير المسلمين.
أيُّهَــا السَّــادة العُلَمَــاء!
والآن كيف ننزل بمفهوم السلام فى الأديان إلى هذا الواقع المعقد؟ والإجابة التى أختم بها كلمتى هي: لابُدَّ أوَّلًا من صنع السلام بين رجال الأديان أنفسهم، وليس بين رجال الدين الواحد، وهذه معضلة تحتاج إلى حوار باحث عن المشتركات بين الأديان، وما أكثرها وأهمها، فمالم يتصالح رجال الأديان فيما بينهم فإنَّه لا أمل فى قدرتهم على الدَّعــوة للسَّلام والتَّبْشِير به بين النَّاس، ِإِذْ فاقِــدُ الشَّــــيء لَا يُعْطِيه..
أمَّا كَيف ذَلِكَ فَهَذَا مَا أحتَاج إلى أنْ أسْمَعه من حَضَراتكُم.
شُـــكْرًا لِحُسْـــنِ اسْتِمَاعكُم؛
وَالسَّلاَمُ عَـلَـيْكُم وَرَحْمَةُ اللهِ وَبرَكَاتُه.
شـيخ الأزهـر
أحـمـد الطـيب
شيخ الأزهر من مدينة مونستر الألمانية: السلام بين الشعوب يبدأ بحوار الأديان
عدد الردود 0
بواسطة:
Mohamed Taha
بارك الله في عالمنا الجليل
عدد الردود 0
بواسطة:
علي عمرو
تحية إجلال وتبجيل لفضيلة الإمام الأكبر
عدد الردود 0
بواسطة:
مصر
هذا هو الأسلام
عدد الردود 0
بواسطة:
ابو الاء
هذا هو الحق والاخلاص لله فى الدعوة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد كمال محمد
إن الدين عند الله الإسلام