لو قلنا إن الإرهاب «عدوى» أو «فيروس»، فمن الطبيعى أن ينتقل هذا الفيروس من شخص إلى آخر، ومن الطبيعى أيضا أن يقاوم البعض هذه العدوى لأن مناعتهم قوية، وأن ينهار البعض الآخر لضعف مناعتهم أو انهيارها، ولهذا يجب علينا أن نزود مخزوننا من الأمصال المضادة لهذه الفيروسات، كما يجب علينا تجنيد مكافحين جدد لهذه الفيروسات، ولن تجد الدولة أفضل من الفن والثقافة كمكافح أول للإرهاب، لكن للأسف يخشى البعض من أن تنتهى تلك الثقافة الواعية فى مصر، بعد أن يصعد جيل تشوهت مفاهيمه واضطربت اختياراته فى ظل تردى النظام التعليمى، ولهذا فمن الواجب علينا أن نعمل على مكافحة الإرهاب من جهة، كما نعمل على تدعيم مكافحى الإرهاب من جهة أخرى، بأن نزرع الثقافة فى القلوب والعقول والحياة، لأن الثقافة كالدماء، إذا لم تتجدد تموت، وإذا لم تجد شرايين وأوردة لتأخذ عبرها دورتها تتجلط وتفسد، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتعداه إلى ما هو أسوأ، فحينما تفسد الثقافة يصبح التغييب هو العملة الرسمية للمجتمع، وتسيطر الخزعبلات ويعم الجهل بأمراضه المستعصية كالتطرف والتعصب والعنف.
باختصار.. حاول أن تلتقط صورة لمصر الآن لتعرف ما الذى يعنيه غياب الثقافة، إذا ما تجاوبت مع التشبيه السابق الذى يفترض أن الثقافة كالدماء، فدعنى أقل لك إن الأزمة فى مصر ليست فى «الدماء»، ولكن فى طريقة استيعابه، فمصر غنية بتاريخها وحضارتها للدرجة التى جعلتها متربعة فوق الإنسانية، كما أنها من أكثر بلدان العالم العربى إنتاجًا للمبدعين والمفكرين والأدباء والفنانين، فكل مبدع فى مصر هو أمة إبداعية مستقلة بذاتها، وقلما يتاح لبلد أن يحظى بواحد مثل نجيب محفوظ فى تاريخه، فما بالك بأمة بها العشرات من «نجيب محفوظ» كانوا مجتمعين فى زمن واحد؟! ما سبق ليس أكثر من مقدمة لدعوة أوجهها إلى وزارة الثقافة لتنشئ بيتا لتعليم وتطوير آلة الكمان يكون على رأسه الموسيقار العالمى الكبير «عبده داغر» الذى يعرفه العالم أجمع تمام المعرفة، بينما تتجاهله مصر فى كل أزمنتها، فبيت كهذا جدير بأن يكون الشريان الذى يضخ الدماء الجديدة فى شرايين مصر وعروقها.
وإذا ما فكرت «الدولة» التى تعانى الآن من ظاهرة هدم القصور والفيلات التاريخية فى أن تحول هذه القصور التى يبلغ عددها أكثر من خمسة آلاف قصر وفيلا إلى بيوت لتعليم العزف على العود والكمان والناى والقانون والبيانو، فمن الممكن أن تجد الثقافة المصرية منفذًا لها إلى شرايين المجتمع. ستقول لى إن الدولة لا تملك هذه القصور لكى تحولها إلى مراكز إبداع وتنمية، وسأقول لك إنها الوحيدة القادرة على نزع ملكية هذه القصور وتعويض أصحابها بأراضٍ من ممتلكات الدولة الشاسعة، التى تروح هباء فى فضاء الفساد المنساب بلا حدود، فقط تحتاج مصر إلى إدارة واعية وطموحة، كما تحتاج إلى وعى جمعى يحافظ على إرثها المتجسد فى عباقرة مثل «عبده داغر».
نشر هذا المقال فى السبت 28 نوفمبر 2015، وأعيد نشره اليوم بعد أن تبنت وزارة الثقافة المبادرة التى طرحتها هنا، الخاصة بعمل معرض دولى للفنون فى مصر لعلها تدرج هذه الفكرة أيضًا فى مشاريعها المستقبلية.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
طاهر
الدولة المصرية ... بين برهامى و الأمور الفنية !