«أريد الشاه هنا.. أريده حيًّا» هكذا قالها السادات واضحة وصارمة للرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر، عندما حاول الأخير توعيته بخطورة الموقف المقبل عليه وتأثير ذلك على مصالحهم فى المنطقة.
هكذا بدا موقف السادات مثلما ترويه الملكة فرح ديبا، زوجة شاه إيران السابق، فى مذكراتها، والذى كان أول المرحبين بإقامة الشاه على أرضه، ولعل ذلك يعود لشعوره بما عاناه رضا بهلوى جراء إنهاء
إمبراطوريته على يد الإسلاميين وخطورة هذا الفصيل على أى دولة يسيطر عليها، لذا شعر منذ اللحظة الأولى أن هناك مصيرا واحدا يربطه بالشاه، وهو أن الإسلاميين سينهون حقبة كل منهما، سواء بملاحقة الثانى وإجباره على العيش مشردا فى كل بقاع الأرض، أو بتصفية الرئيس الثالث لمصر رميًا
بالرصاص، تقول فرح: «كان السادات من بين القليلين من قادة الدول الذين رأوا الخمينى على حقيقته منذ البداية واعتبره بالفعل نصابا».
فى هذا الكتاب تحكى ديبا، إمبراطورة إيران السابقة، تفاصيل وذكريات طفولتها ودراستها وقصة زواجها من الشاه، وتستعرض أيضًا الصعوبات التى واجهت الأسرة المالكة فى محاولة هروبهم من بطش أتباع الثورة الإيرانية التى أقصتهم عن موطنهم وجعلتهم عاجزين عن إيجاد مأوى.
الأسرة المالكة تجوب العالم بحثاً عن ملاذ آمن:
كانت مصر على رأس الدول العربية التى قرر الشاه وزوجته اللجوء إليها، وبالفعل جاءوا للاحتماء فيها مرتين، الأولى كانت فى يناير 1979 استغرقت ستة أيام فقط، والثانية فى مارس 1980 بعدما اشتد مرض الشاه وظل فيها إلى أن وافته المنية ووارى جثمانه ثرى مسجد الإمام الرفاعى، فالعلاقة بين الشاه والسادات تعود إلى سبعينيات القرن الماضى عندما قرر الأخير الخروج عن دبلوماسية سلفه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بقربه من الولايات المتحدة الأمريكية والتمهيد لاتفاقية كامب ديفيد، ومن جانبه أيد الملك موقف السادات فى إقامة سلام دائم بين البلدان العربية وإسرائيل، علاوة على أن إيران كانت تدعم بانتظام التنمية فى مصر بتقديم العديد من المنح والمعونات.
كان الشاه يتابع المظاهرات الضخمة التى نظمها أنصار الدستور فى طهران فى فترتها الأولى باهتمام، وكان لديه شعور دائم بأنه قادر على استكمال مهمته وتثبيت أقدام إيران فى القرن العشرين مثلما تقول فرح، لدرجة أنه عندما اقترح عليه السادات أن يأتى بمقاتلته الخاصة إلى مصر رفض وقال إن القوات الجوية تنتمى إلى إيران وسينتظر وفيًّا لمبادئه حتى يدعوه الشعب للعودة، ولكن هذا لم يحدث، فقد زادت سيطرة أتباع الخمينى واندلعت المظاهرات المؤيدة للحكومة الإسلامية.
فى المغرب، تلقى الشاه نبأ نجاح الثورة، وصدرت أحكام إعدام لرجال الشاه ومعاونيه فى السلطة، وترددت أنباء مذابح الضباط فى الشوارع. تضيف فرح: لم يكن لدينا أى أمل فى العودة، قرر الملك إعفاء الطاقم العسكرى الذى رافقنا من طهران إلى المغرب، وإعادة الطائرة إلى إيران، وقال لهم، نحن لا نعرف متى سنعود ولكن حان وقت عودتكم، وإذا حدث لكم أى مكروه عندما تصلون فقولوا إننى أجبرتكم على مرافقتنا تحت تهديد السلاح.
أمام مطالب قادة الثورة الإيرانية لإعادة الشاه وزوجته لمحاكمتهم، كثرت التحذيرات لهم بمغادرة المغرب بعدما قاموا بالتضييق على كل الدبلوماسيين الأجانب فى طهران حتى تغلق الدول التى ينتمون إليها أبوابها فى وجه الأسرة المالكة ويرفضون الاحتماء فيها، وهذا ما فعلته فرنسا وسويسرا وبريطانيا.
لم يبق أمام الشاه وزوجته سوى الإقامة فى جزر البهاما التى رحبت فى البداية، ولكن سرعان ما فرضت عليهم قيودا بعدم الحديث فى الشأن السياسى، خاصة بعدما بدأ أعداء الملك يروجون صورا له فى الجزيرة ويقولون بينما يستمتع هو بالطبيعة فى جزر البهاما يتخلى عن رجاله ويتركهم يقتلون، ولكن سرعان ما رفضت جزر البهاما تجديد الإقامة لأسرة الشاه وظل السادات هو الرئيس الوحيد الذى يكرر دعوته فى شجاعة.
كانت الوجهة التالية للشاه وأسرته هى المكسيك، حيث واجهوا فيها صعوبات كثيرة، كان الناس يفرون من لقائهم خشية الإسلاميين، كما أن المدارس رفضت استقبال أطفالهم بحجة أن أولياء الأمور قلقين على مستقبل أبنائهم، وبعدها لم يعد الملك شخصًا مرغوبًا فى وجوده بالمكسيك. اتجهوا إلى ولاية تكساس فى أمريكا، وبدأت صحة الملك تتدهور تدريجيا، ومع إذاعة أنباء قتل أتباع نظام الشاه فى إيران أصبحت إقامة أسرة الملك فى تكساس تمثل عبئا على الإدارة الأمريكية، وبعدها ذهبوا إلى بنما ووصلتهم تهديدات بتسليمهم لطهران، وثار قلقهم بشأن المساومة عليهم مقابل إطلاق سراح الدبلوماسيين فى طهران، فكان عليهم أن يتركوها ويرحلوا فورا.
السادات يرحب باستضافة الشاه مجددًا:
«موقفنا يدعو لليأس، السرطان انتشر فى طحال زوجى وإذا لم يجر العملية فورا فسوف يموت، لكننى لا أستطيع الثقة فى أحد هنا، علينا مغادرة بنما فورا، هناك أنباء تنذر بسوء، فقلت لها تعالوا إلى القاهرة نحن فى انتظاركم» هكذا جاء موقف جيهان السادات زوجة الرئيس الراحل مؤكدة استعداد مصر لاستضافة أسرة الشاه.
تقول فرح فى مذكراتها: «كان هناك قلق أمريكى من رحيلنا إلى القاهرة، لأن هذا سيضر بجهود السادات ومصر فى عملية السلام فى الشرق الأوسط، وعندما ألحت أمريكا فى طلبها بعدم الرحيل إلى مصر، قال الملك أريد أن أموت بشرف وليس على طاولة عمليات بسبب شخص ارتكب خطأ أو تمت رشوته، بعد ذلك حاول الدبلوماسى الأمريكى كتلر، أن يقنعنا أن بإمكانه فتح الحدود أمامنا مرة أخرى لإجراء العملية فى أمريكا وإقناع الملك بأن يتنازل عن العرش، وهنا رفض الشاه أن يأخذ وعود الأمريكان على محمل الجد، فطوال عام ونصف العام لم تكن وعودهم تساوى شيئا».
أراد السادات أن يقل الشاه وزوجته على طائرة تابعة للرئاسة المصرية، ولكن الإدارة الأمريكية رفضت ورأت أنه من الأفضل استئجار طائرة، تقول فرح: كنا قلقين بعد رفض طلب السادات بالسفر على متن طائرة الرئاسة المصرية، صعدنا للطائرة دى سى- 8، التابعة لشركة طيران إيفرجرين، كنا فلقين من قدومنا لمصر ومن أى أحداث عنف تثيرها جماعة الإخوان المسلمين، ظننا أن هناك محاولات لإعاقة وصولنا إلى مصر.
تفاصيل الأيام الأخيرة للشاه فى مصر:
قبل قدومهم لمصر جرى التصويت من قبل أعضاء البرلمان على استضافة الشاه وزوجته، وبالفعل حصلوا على 384 صوتا مقابل ثمانية أصوات وافقوا على الاستضافة باسم احترام المبادئ الإنسانية. استضاف السادات شاه إيران فى قصر القبة، ومكث فى المستشفى العسكرى بالمعادى وخصص له جناحا خاصا لبدء التجهيز لإجراء عملية استئصال الطحال وسط استقبال حافل من المصريين للأسرة الإيرانية لدرجة وصلت إلى حد رغبتهم فى التبرع بالدم لصالحه.
أوصى السادات بأن يبقى الشاه تحت رعاية الدكتور طه عبدالعزيز، الطبيب الخاص به، بقيت العائلة فى القاهرة ودخل الأطفال مدارسها، بعد وفاة شاه إيران السابق، نظم السادات له جنازة رسمية وأشرف على تفاصيلها بنفسه.. تقول فرح على لسان جيهان السادات فى مذكراتها: «إنه لم يتم تنظيم جنازة رسمية أكبر من هذه، نظم أنور كل شىء بنفسه، كان مشرفًا حتى على أدق التفاصيل، تقدم الموكب آلاف من طلاب أكاديميتنا العسكرية كلهم يعزفون الآلات الموسيقية ويرتدون الزى العسكرى الأبيض والأصفر والأسود، كانت أضخم جنازة شهدتها مصر، والفرصة الأخيرة ليرى العالم أن الشاه كان يستحق ما هو أفضل من الطريقة التى عومل بها، فمصر على الأقل لم تدر ظهرها لصديق».
"7 أيام" تنفرد بحوار خاص مع إمبراطورة إيران السابقة فرح بهلوى