قبل أن نحدد مشكلة مصر الكبرى وكيفية حلها تعالوا نسأل أنفسنا سؤالا جدليا: هل هناك حقا مشكلة كبرى؟! والأهم ما العمل إذا لم تكن هناك مشكلة كبرى أو ما العمل إن كانت المشاكل صعبة وعصية على الحل؟
أعرف مسبقا غرابة الطرح والشعور العام بعدم جديته أو فائدته. وما أريد أن أصل إليه فى نهاية المقال أنه لا توجد مشكلة كبرى فى مصر وأكبر مشاكلنا تبدو دائما عصية على الحل ولكنها لسبب أو لآخر تحل تلقائيا مع مرور الزمن وهذا شأن أغلب الأمم. وهذه ليست دعوة للتكاسل بل دعوة للرقى والتقدم بدون ترهيب من المشاكل والأعقاب الوخيمة إذا لم تحل.
نعود للسؤال الأصلى: هل هناك حقا مشكلة كبرى ؟ الإجابة النموذجية هى نعم بالتأكيد. هناك مشكلة كبرى إن لم تكن مشاكل عديدة. منها على سبيل المثال: نسب البطالة العالية - الانصياع للغرب وتقليده فى كل شيء وإهمال تراثنا وعاداتنا وديننا - الشباب وطيش الشباب ووقوعه فريسة للمؤامرة الكبرى علينا - التعليم وما آل إليه - إنهيار قيمة العمل فالكل يريد أن يأخذ بدون أن يعمل - تدهور الخدمات الصحية والمبيدات والتلوث - طبيعة شعبنا الذى يأبى أن يتغير ويتطور - الفساد وفساد الأخلاق والزمم - التخلف عموما بكل ما تحمله الكلمة من معانى. هناك الكثير من المشاكل. كل ما علينا هو أن نحدد أهم مشكلة أو المشكلة الأم التى ستحل كل المشاكل الآخرى ثم ندرسها ونحللها ونوجد الحل وأخيرا نوحد جهودنا فى إتجاه هذا الحل.
وهناك نظرة أخرى تسأل متى كنا بلا مشكلة؟ أو بالأصح متى كنا ندرك أننا بلا مشكلة كبرى؟ وهل وجد مكان على الأرض بدون مشكلة كبرى؟ فى رأيى هناك دائما إحساس بوجود مشكلة تحتاج للحل. بل هناك حاجة لوجود مشكلة!
تعود الإنسان على مر العصور أن تكون هناك مشكلة. فمنذ الأزل واجه الإنسان (بل أغلب الكائنات الحية) الأخطار من كل جانب. والثمن غاليا إذا لم ينتبه للخطر المحيط به. وبالغريزة يبتعد الإنسان عن الخطر. ولم يكن هذا كافيا. فبدأنا نبتكر ونتقدم حتى وصلنا إلى ما نحن فيه عن طريق حل المشاكل. وبالتالى تأصلت فكرة أن المشكلة هى أساس التقدم.
ومما لا شك فيه أن المجتمع الإنسانى اليوم يسعى لخلق المشاكل وبالتالى لحلها كوسيلة للتقدم والرقى. ففى مجال التجارة مثلا نسمع عن مصطلح "خلق الحاجة" (creating the need) ويعنى خلق الإحساس بمشكلة ما لتقديم الحل.
وتحولت المشكلة وحلها من كونها غريزة تتحسس الأخطار الحقيقية وتتعامل معها إلى عقيدة تحول كل شيء حولنا لمشكلة لنحلها فنتقدم. فدراستنا مبنية على المشاكل وحلها. ونهاية كل فصل فى أى كتاب مدرسى تجد المسائل وطرق حلها. بل أن بعض تعاريف المنهج العلمى ترتبط ارتباطا وثيقا بالمشكلة (إدراك المشكلة ثم تعريفها الخ الخ). وأقول بعض التعاريف لوجود تعريفات مبنية على الملاحظة وليست بالضرورة على المشكلة. وهذا ما أريد أن أصل إليه: التقدم المبنى على الملاحظة أساسا وأحيانا مبنى على المشكلة.
تاريخيا حاول البعض تخيل مجتمع بدون مشاكل. ومنهم أفلاطون وماركس. فالمجتمع الإفلاطونى (المجتمع الفاضل) هو مجتمع بلا مشاكل ويدعو للتعالى (تجاهل) عن المشاكل والاهتمام بالروح قبل الجسد وثبت أنه غير واقعى. أما المجتمع الشيوعى فيشترط أن نصل لمرحلة الكفاية (أى أن تكون هناك غزارة فى الثروة المادية) حتى يستطيع أن يحصل كل فرد على ما يريده. ومرة آخرى ثبت فشل التجربة. فالشيوعية لم تتجاهل إحتياج الإنسان كما فعل أفلاطون ولكنها سعت لإلغاء الملكية الشخصية وحاربت بالتالى البرجوازية. وحربها ضد البرجوازية هى حرب ضد غزارة الإنتاج وبالتالى أدى إلى فشلها.
أوضحت لماذا لا آرى ان هناك مشكلة كبرى بالضرورة وكل مانسمعه وسمعناه وسنسمعه هو عملية إبتكار لمشاكل كبرى.
وأنتقل لكيفية حل المشاكل الموجودة (نعم هناك مشاكل ولكنها ليست بالصورة التى يصورها لنا المجتمع).
نظريا يبدأ الحل بإدراك وجود المشكلة ثم تعريفها ودراستها للوصول إلى حلول مقترحة تدرس من كافة الجوانب ونختار أفضلها ثم نراقب المشكلة فإن لم تحل نعيد البحث.
وعمليا هناك طرق كثيرا للحل أهمها الغش. فنرى كيف حل غيرنا المشكلة أو كيف حلت مشكلة مماثلة ونستخدم هذا الحل. والطريقة الآخرى التى أثبتت نجاحا هى طريقة الصدفة ! فكم من عقار أكتشف عن طريق الصدفة. والفرق الرئيسى بين الغش والصدفة أن الغش مازال ينطلق من وجود مشكلة تبحث عن حل أما الصدفة فتوجد حلا لمشكلة لا ندركها أو لا نرى لها حلا ( من أكبر الأمثلة السيارات فلم يكن أحدا يرى أن هناك مشكلة فى مع العربة التى تجرها الأجياد. أو أبحاث الفضاء التى نحصل منها على تكنولوجيا تفيدنا فى أشياء آخرى). وأخيرا هناك طريق ثالث فى مراحله الأولى وهو التفكير الجمعى التعاونى. أى طرح المشكلة أو الحلم للجميع ويتعاون الكل عن طريق مجموعات صغيرة متعاونة لتحقيق الحلم وهذا ما حدث مع السيارات الذاتية القيادة وما سنراه مستقبلا بصورة أكبر.
والمشاهد أنه كلما تقدمت الإنسانية قلت الأخطار الحقيقة وزادت المشاكل المصطنعة وتباعدت العلاقة بين المشكلة والحل وأصبحنا أكثر قربا من الاستغناء عن الحاجة لوجود مشكلة كشرط أساسى للحل أو للتقدم. وأشبه هذا بالسفر والترحال. ففى الماضى كانت الطبيعة القاسية ( المشكلة ) هى التى تدفع الإنسان للسفر (الحل). أما اليوم فالسفر غالبا ما يكون للمتعة دون الحاجة لوجود مشكلة.
ختاما أعيد هنا ما كتبته عن غرض المقال: "ما أريد أن أصل إليه هو أنه لا توجد مشكلة كبرى فى مصر وأكبر مشاكلنا تبدو دائما عصية على الحل ولكنها لسبب أو لآخر تحل تلقائيا مع مرور الزمن وهذا شأن أغلب الأمم. وهذه ليست دعوة للتكاسل بل دعوة للرقى والتقدم بدون ترهيب من المشاكل والأعقاب الوخيمة إذا لم تحل".