فى المرة الأولى التى قابلت فيها "مكاوى سعيد" أخذنى بالحضن، هكذا فى أول لحظة فى أول لقاء، لم أندهش من تصرفه لأنى لم أشعر وقتها بأى إزعاج، هو ابن بلد وأنا كذلك، وولاد البلد لا يشعرون بالغربة على الإطلاق.
أثناء اللقاء اكتشفت أنه يظن أنه يعرفنى منذ سنوات وأنى انقطعت عنه لظروف سفرى وأنا الذى لم أغب بعيدا عن مصر طوال عمرى لأكثر من أسبوع.
هو أنا وائل السمرى بالنسبة له، لكنه ربما لم يقبل فكرة أنه يسمع اسمى منذ وقت طويل ولا يعرفنى للحظة أردت أن أصحح له معلوماته وأقول له أننا نتعرف للمرة الأولى، لكنى تراجعت، هو صانع أساطير وسط البلد، وقد اكتشفت الآن للتو كيف يصنع "ميكى" أساطيره.
قبل أن أعرفه، كنا نتحدث عن روايته الكبيرة التى استطاع الوصول بها إلى مصاف "الكتاب الكبار" لم نكن قد قرأنا الرواية بعد، لكننا اندهشنا من تلك الرواية التى يتحدث عنها الجميع وكأنها حرافيش نجيب محفوظ أو فساد الأمكنة لصبرى موسى، كنا نضحك على هذا الذى يشبه المهاتما غاندى الذى استطاع أن يقفز من فوق كراسى دراويش وسط البلد إلى كراسى كبارها، وبعد أن قرأت الرواية افتتنت بذلك الذى استطاع أن يختزل الجميع فى رواية واحدة، ففى رواية "تغريدة البجعة" لم يفعل "ميكى" المستحيل، لكنه فعل الصواب، كتب كل شىء حقيقى عن حياته وحياتنا، عن تحولاته وتحولاتنا، عن مصر التى فى خاطرنا، ومصر التى نشهدها تنحدر، عن الشوارع التى تغيرت أسماءها، عن أطفال الشوارع الذين يتنامون فى ظل من اللهيب، عن وطنى حبيبى الوطن الأكبر الذى ينمو التصدع فيه بلا مواجهة تذكر، عن الأحلام وقاتليها، عن الألم ومبتكريه، ولما تعرفنا وجها لوجه استبدلت تلك الهالة المعظمة بهالة أخرى من اللطافة، يا ربى على هذا الود، يا ربى على هذه الرحابة، يا ربى كيف تمنح شخصا واحدا كل هذا القدر من الطيبة الصارخة، وكل هذا القدر من الألفة.
صار مكاوى سعيد بالنسبة لى جزءا عزيزا من القاهرة، جزءا غاليا وودودا، مثله مثل شوارع وسط البلد وأزقتها، مثل تمثال طلعت حرب فى شموخه، وتمثال مصطفى كامل فى ترفعه، مثل المقاهى التى تشغل الجميع عن الجميع، مثل دهاليز العمائر القديمة التى لا يعرفها إلا الراسخون فى شارع شامبليون وصبرى أبو علم، مثل البنك المركزى وعمارة الأوقاف، مثل التكعيبة وأفتر إيت والندوة والحرية والبستان، مثل سوق باب اللوق الذى لا ندخله إلا على سبيل الخطأ، مثل نسائم الهواء العليل التى تدهشك كلما مررت بجوار ضريح سعد زغلول، مثل محمد محمود والشيخ ريحان، مثل محمد هاشم ودار ميرت للنشر وسينما قصر النيل، مثل سعد الحرامى وعم غزال وعم أحمد ربيع، مثل كشرى أبو طارق ومكرونة بابا عبده، مثل استوريل واستلا والكاب دور، مثل سوق التوفيقية وآخر ساعة وجيلاتى العبد، مثل تمثال إبراهيم باشا ومسرح الطليعة وشارع محمد على مثل حسن الأكبر وقصر عابدين وبن عبد المعبود، مثل محلات الأنتيكات المنتشرة فى هدى شعراوى مثل أكشاك الصحف وعربات الكبدة ومحلات الإليكترونيات، كان مكاوى كل هؤلاء فى شخص، تنبع قيمته من أسطورته الذاتية التى التصقت بوسط البلد فصارت أحد أهم معالمها، كان بالنسبة لنا عنصر الأمان الدائم فى كل شبر من وسط البلد، دائما موجود، دائما مبتسم، ودائما يرحب بك بلا تصنع.
يا الله .. رحل مكاوى سعيد اليوم، اليوم رحل مكاوى سعيد..
الجميع يبحث عمن يؤكد الخبر، ثم يبحث عمن يؤكد تأكيد الخبر، ثم يبحث عمن يؤكد تأكيد من أكد تأكيد الخبر، أصدقاؤه يؤكدون أن خبر وفاته مزحة ابتكرها هو، وأنه سيفاجئ الجميع فى مساء شتوى قريب بالظهور فى "زهرة البستان" كعادته، يجلس مع "أى شلة" يجدها، ويسامر أى شخص يقابله، فهو سهل كالماء، لا تشعر به لأنه "موجود" لكنك لا تعرف إنك لا تستطيع أن تعيش بدونه إلا حينما يغيب عنك، مكاوى وميكى القريب من الجميع، المتاح للجميع، المحتفى بالجميع، المبتسم للجميع، الزاهد فيما يملك، المتجاهل لما لا يملك، المراقب لكل البشر، صاحب الخزينة الممتلئة بالأسرار والناس والحكايات والطرائف، صاحب الطلة المميزة، والبسمة الموقعة باسمه كماركة مسجلة.
يا صديقى القديم جدا، القديم جدا.. أعرف الآن أنك تعرفت إلى الناس كلهم مرة واحدة، وكأنك اطلعت عليهم فى عالم الغيب، أعرف الآن أن لكل روح عندك بصمة مميزة، وكأنك تتبع مسارات الروح منذ نشأتها حتى حلولها فى الأجساد المسماة باسمنا.. أعرف الآن أننا ربما تقابلنا قبل أن نتقابل، وتصادقنا قبل أن نتعرف، وأنك تصنع اساطيرك معتمدا على معرفتك بالروح، فسلام لروحك التى ستفتقدها الشوارع، يا ملك الشوارع، ولا عجب إن رأيت شوارع وسط البلد فى جنازتك كل شارع باسمه، جاء ليودعك أباه المفقود.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة