لقد اقتلعت صورة هذه الفتاة التى حولت آلة الإرهاب جسدها إلى أشلاء، والتى كانت تتهيأ لاستقبال عام جديد راكضة على سلالم الكنيسة وبيدها كوب تلقى به كعادة اعتاد الناس ممارستها بكسر إناء أو أى شئ آخر دلالة لانقضاء عام سبق بكل سلبياته وشروره، وعلى أمل الدعاء لله بعام جديد كله أمان واستقرار وسلام، كل جذور الأمان والهدوء والسكينة من داخل قلبى وقلب كل إنسان على هذه المعمورة، وليزرع الخوف والقلق من تنامى هذه التيارات المتشددة التى تقتل الحياة التى حرم الله قتلها، لقد خلق الله هذه الحياة من أجل إن يعمرها الإنسان ويبنيها على أسس من المحبة والتعاطف بين كل الشعوب. وهذه الفتاة التى راحت ضحية عمل إرهابى لم يميز بين طفل ومسن ورجل وامرأة، وشاب أو شابة، لأن هدفه القتل فقط، تذكرنى بكل فتاة وفتى وبكل ضحايا هذه الأعمال التى يدينها الدين قبل أى قوانين بشرية. والفتاة مريم التى ترمز لمعنى الحياة بعمرها الذى لم يتجاوز الثانية والعشرين كل حيوية الحياة التى تعطيها قوة الشباب دفعة الاستمرارية ، فهى رمز للحياة التى نحرص عليها جميعا، ورمز لقوة الشباب الذى يمنح الحياة تجددها، ورمز للعطاء والتضحية، لقد اغتيلت وهى تركض مسرعة لاستقبال العام أو الحياة الجديدة التى دعت فى صلواتها من أجلها، ولم تعش منها إلا ساعات قليلة جدا ومريم فكرى ومعها كل الذين راحوا هذا العمل الإرهابى الذى وقع أمام كنيسة القديسين فى الإسكندرية رمز لما هو أكبر وأسمى، وهذا الرمز هو مصر الكبيرة بدورها ومكانتها وحضارتها وعطائها الذى لم ينقطع لأمتها العربية والإسلامية والإنسانية كلها ، مصر وبتاريخها العريق والحضارى السحيق قدمت نموذجا فى التآخى والمحبة والأخوة فى الوطن بين المسلم والمسيحى وبين كل أبناء الشعب المصرى. ولذلك هذا العمل هدفه الأكبر هو دور مصر ومكانتها التاريخية والحضارية ، وضرب هذا النموذج الحى للتآخى بين المسلم والمسيحى فى محاولة لقتل وتدمير هذا النسيج الاجتماعى القوى ، ومصر بدورها المركزى والقيادى فى قلب النظام الإقليمى العربى هى التى بقوتها يقوى هذا النظام، وبضعفها يضعف هذا النظام وينهار ويتفكك إلى شظايا كالشظايا الحية التى خلفتها هذه العملية الإرهابية. إذن المستهدف هو دور مصر وأمنها واستقرارها الداخلى ووحدتها الاجتماعية ، وقد تكون أسهل الطرق لإحداث الفرقة والخلاف هو تغذية الاتجاهات المذهبية الضيقة باستغلال التيارات المتشددة فى كل جانب، وتصوير الأمر وكأنه صراع مذهبى وطائفى، والحقيقة أن الهدف هو ما ترمز له مصر من قوة ودور وعلى مدار التاريخ ودور مصر مستهدف بفعل قوى إقليمية ودولية لا تريد لمصر دورها العربى والإسلامى، وتريد أن تنزع هذا الثوب عن هوية مصر الحاضنة لكل التيارات الفكرية والحضارية التى نجحت مصر فى تذويبها فى إطار هوية واحده تستمد جذورها ومقوماتها من منابع مختلفة أبرزها هذا الاندماج والتسامح الدينى الذى قامت عليه هذه الهوية والشخصية المصرية. ودائما الدول الكبرى والدول المركزية تكون مستهدفه من كل القوى المتربصة بهذا الدور ، والتى تسعى إلى الإحلال محله، وتاريخ مصر فى جزء كبير منه كان تجسيدا لهذا الاستهداف، وهو ثمن سياسى تدفعه مصر لما تقوم به من دور فى الدفاع عن قضاياها القومية كالقضية الفلسطينية التى خاضت حروبا طويلة من أجلها، وقدمت الآلاف من الشهداء من دماء أبنائها، ولدورها فى الدفاع عن الإسلام وما يقدمه الأزهر الشريف من دور تنويرى وحضارى فى الحفاظ على الدين ونشر قيمه التسامحية والحضارية، ولدورها الرائد عالميا باعتبارها بؤرة كل التفاعلات الدولية والإقليمية فى المنطقة، ولدورها فى القضايا الأفريقية ودول العالم الثالث، هذا هو المستهدف الحقبقى من هذا العمل، وقبله العديد من العمليات الإرهابية التى حاولت أن تنال من مصر ودورها، وفى كل مرة كانت مصر تخرج أقوى من ذى قبل بوعى أبنائها، وحكمة قيادتها وعطاء شعبها وبقوة منظومة القيم التى تمثلها ولعل أكبر رد على هذه العمليات هو فى الحفاظ على هذا النسيج الاجتماعى والقيمى الذى تمثله مصر. وتدليلا على عمق هذا الدور أن الذى حدث لم يصب مصر فقط بل أصاب جميع العرب والمسلمين، والكل سارع لإدانته والتأكيد للوقوف مع مصر بكب دورها وتاريخها وحضارتها ، إدراكا من الجميع أن بقاء مصر هو من بقاء الجميع وما حدث ينبغى أن يكون بمثابة إدراك هذا الخطر، وهذا الاستهداف، وأنه يتطلب يقظة أولا على مستوى الفرد العادى ، ويقظة ومسئولية من قبل كل مؤسسات الدولة، وهنا يبرز دور الدعاة ورجال الدين فى التأكيد على هذا التآخى الدينى ، ومصر الأرض التى وصفها الله فى كتابه العزيز بالأرض الآمنة المسالمة بقوله تعالى: "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " صدق الله العظيم، وبهذا المعنى الإلهى العظيم ، مثل هذه ألأعمال الإرهابية تعمل ضد ما جاء فى القرآن الكريم . وإذا أردنا الخير للإسلام والمسلمين، علينا إن نحافظ على هذا الدور، وهذه المكانة ، وعلى قوة مصر. وصورة مريم فكرى ينبغى أن تبقى دافعا قويا للتوحد، ودافعا للتصدى لكل فكر متشدد متطرف، وأن تبقى صورتها وهى مندفعة للحياة مطلبا لنا جميعا للحفاظ على هذه الحياة وتعميرها وبنائها استجابة لما جاءت به جميع الأديان السماوية التى تدعو إلى البناء والأعمار ، وليس القتل والتدمير، هذه هى مريم فكرى وما ترمز إليه ، وحفظ الله مصر ، وجعلها دائما الأرض الآمنة.
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة