الكلمة الأكثر دلالة التى يمكن وصف إمبراطورة إيران السابقة، الشهبانو، فرح ديبا، بها هى "الدراما"، فالمتتبع لتاريخ هذه السيدة يرى الشجن علما على سيرة حياتها التى مرت بعدد بالغ من مراحل الأسى والفقد والحرمان، لكن أخطر هذه المراحل على الإطلاق حين رأت زوجها أقوى رجال الشرق الأوسط وإمبراطور البترول والشرطى الفعلى لمنطقة الخليج يقصى عن الحكم ويغادر بلاده بعد نحو 38 عاما قضاها على عرش الطاووس أو كما يوصف فى بلاد فارس "العرش الشاهنشاهى المنيع"، ومن خلال العرض التالى نلقى الضوء على هذه المراحل الثلاث.
إمبراطورة إيران الحزينة فرح ديبا
المرحلة الأولى.. ثورة الخمينى وعزل الشاه
ولدت فرح ديبا فى 14 أكتوبر من العام 1938م، ومنذ نعومة أظافرها عاشت حياة منعمة ومرفهة، فهى ابنة للجنرال العسكرى، سهراب ديبا، الذى كان يعمل ضابطا فى الحرس الإمبراطورى الإيرانى، وينحدر من أذربيجان الإيرانية لعائلة شديدة الثراء والعراقة، وشغل جدها منصب سفير بلاد فارس لدى موسكو (قبل أن يحولها الشاه رضا بهلوى إلى اسم إيران بالعام 1925) ورفلت فى النعيم وتعلمت فى المدارس الفرنسية وتنقلت بين طهران وباريس، كما يتنقل المرء بين غرفتى المعيشة والنوم فى منزله.
الرئيس السادات يشيع جثمان صديقه شاه إيران فى 27 يوليو 1980 بحضور فرح ديبا والأبناء الأربعة
بين عشية وضحاها تحولت حياتها جذريا، عندما رآها الشاه الإيرانى محمد رضا بهلوى، فى حفل أقامته السفارة الفرنسية بباريس، وهو الرجل المثقل بالأسى والمحمّل بخيبة أمل من زيجتين لم يكتب لهما النجاح والاستمرارية، وقعت عينا الشاه على الفتاة الرشيقة فارعة الطول، والتى تبلغ من العمر 21 عاما، فأسرته حتى أعمق الأعماق ومن فوره قرر أن تحمل اسمه وتكون شريكة حياته.
استمر الزواج سعيدا هانئا ولم يمض وقت طويل حتى أنجبت ديبا الولد، رضا بهلوى الثانى، يوم 31 أكتوبر بالعام 1960م، الذى كان يتمناه الشاه وأصبح ابنها وليا للعهد الشاهنشاهى وتربعت على قمة السلطة كزوجة للإمبراطور وأم محتملة للإمبراطور المحتمل.
صورة نادرة للأسرة فى المنفى بالولايات المتحدة الأمريكية
بين عشية وضحاها انقلب الوضع تماما فى طهران، وثارت البلاد ضد زوجها ومع الثورة العارمة اضطر إلى مغادرة بلاده فى يوم 16 من يناير بالعام 1979م، متوجها إلى مصر وكانت تلك أولى مراحل الشجن الكبرى فى حياة فرح، التى رأت زوجها فيها هشا ضعيفا لا حول له ولا قوة، مغادرا عرشه وعرينه وهيلمانه، بعد أن كان ذات يوم الرجل الأقوى فى الإقليم برمته.
المرحلة الثانية.. انتحار آخر العنقود
ولدت الأميرة ليلى بهلوى فى طهران يوم 27 من مارس بالعام 1970م، وكم مثل قدومها إلى الدنيا فرحة لا تضاهيها فرحة، لأبيها وأمها، وكانت بمثابة آخر حبة حلوة فى عنقود الأسرة البهلوية المتربعة على عرش الشاهنشاه منذ 45 عاما.
قبر الأميرة ليلى بهلوى فى بارس
كانت ليلى نضرة مشعة لا تقل جمالا عن أمها ورثت من أمها العنفوان والجمال، لكنها ورثت من أبيها هشاشة فى الذات، وحين غادر أبوها السلطة كان عمرها 9 سنوات ولم يمكنها عودها الطرى الأخضر من احتمال حياة المذلة والانتقال بين بلاد الله بعد كانت أهم طفلة فى بلاد فارس ومن عليها.
تنقلت مع أمها من مصر إلى الولايات المتحدة الأمريكية إلى المغرب وبنما وإلى مصر مرة أخرى وأخيرا إلى باريس بعد رحيل والدها فى 27 يوليو بالعام 1980م.
صورة نادرة تجمع فرح ديبا وابنتها المنتحرة الأميرة ليلى
احترفت ليله الترجمة ولأنها تتقن الفارسية والفرنسية والإنجليزية اكتسبت قوتها من تحويل النصوص بين اللغات الثلاث، لكنها عاشت تعيسة تعانى من مرض الأرق النفسى ومن مرض فقدان الشهية العصبى ونادرا ما كانت تخلد إلى النوم بسبب الكوابيس والأحلام البشعة التى تراها فى ليلها بسبب الدعاية والأخبار التى كانت تقرأها عن "فساد أبيها" و"فساد عمتها الأميرة أشرف"، وفق ما تنشره المواقع والصحف عبر العالم.
فى صباح يوم الأحد 10 يونيو من العام 2001 تلقت فرح ديبا أسوأ خبر يمكن أن تتلقاه أم، حين عرفت أن ابنتها وحبة قلبها انتحرت فى غرفتها وعلى سريرها فى فندق ليونارد بلندن بعد تناولها جرعة زائدة قدرت بخمسة أضعاف الجرعة القاتلة من دواء "سيكونال حامض برتيوريت" والذى يستخدم لمعالجة الأرق حيث تناولت 40 حبة من الدواء بدلا من حبتين.
الأميرة ليلى فى سيارتها
ويبدو أن الجسد الفارسى الملكى النحيل الممشوق والمنحوت على وقع العذابات والآلام، البالغ أقصى ذورة فى شبابه، لم يتحمل الجرعة الرهيبة فلقى نهايته فى عالم مفعم بالأحزان والشجون، وخلّف فى قلب أمه جرح لم يندمل برغم مرور السنين.
المرحلة الثالثة.. انتحار نجم العائلة
ثانى اثنين صبيين ولدا لفرح ديبا وزوجها الشاه، الأمير على رضا بهلوى الذى عاش بين يومى 28 إبريل 1966 و4 يناير 2011م، حياة متقلبة تنقل فيها بين كونه الابن الثانى للشاه وولى ولى العهد والفتى الوسيم المرغوب من كل بنات فارس، وبين الترحال بالبلاد والعباد طريدا فى أوروبا وأمريكا بفعل زخم الثورة وفعل الثوار.
صورة نادرة تجمع الشاه وزوجته وأولاده
كان على وسيما يحب الحياة ونال منها كما نالت منه، وأهلته نزعاته الشخصية إلى دراسة الفن والحضارة، وبالفعل حصل على شهادة البكالوريوس فى الفنون من جامعة برنستون ودرجة الماجستير فى الفنون من جامعة كولومبيا، وقبل وفاته سجل درجة الدكتوراه فى جامعة هارفارد الأمريكية متخصصا فى الدراسات الفارسية القديمة وحضاراتها، لكنه لم يمهل نفسه الوقت ليصبح أول حامل للدرجة العلمية الرفيعة فى أسرته.
يا للحزن والشجن، سيدة تفقد عرشها وتفقد ولدين لها فى حياتها.. كيف تحملت فرح ديبا كل هذا الألم؟ كيف صبرت على فراق فلذتى كبديها على هذا النحو؟ كيف تمكنت من التقلب بين نيران الفقد والنوى، من دون أن يجن جنونها أو تفقد صوابها؟ كيف استحال قلبها إلى مضغة تعتصرها الدموع وواصلت حياتها بإيمان ويقين؟!
على بهلوى مع والدته فى مراسم عزاء شقيقته الصغرى ليلى التى انتحرت قبله بـ10 سنوات
دق جرس هاتف فرح ديبا فى يوم الثلاثاء بالساعة الثانية والنصف صباحا، الرابع من شهر يناير عام 2011م، فعرفت أن ابنها الأمير على رضا بهلوى انتحر فى شقته فى "ساوث إند" القريبة من بوسطن بولاية ماساتشوستس بعد معاناته من الاكتئاب.
قتل الأمير الشاب نفسه رميا بالرصاص وتوفى متأثرا بجراحه فى الساعة الثانية صباحا، تاركا وراءه أُمّا اعتادت على الأسى ومرت على محطاته بصبر ويقين، مسلمة نفسها إلى هويتها وقضيتها ووفائها لزوجها الذى تحرص على تحويل حزمة سنوات حياتها معه إلى حزمة من الزهور تضعها برفق ومودة أعلى قبره ومشهده فى مسجد الرفاعى بحى القلعة بالقاهرة.
الأمير المنتحر على رضا بهلوى