فى الثانى من مايو عام 2011، وفى منزل بمنطقة «أبوت آباد» فى باكستان، هاجم جنود من وحدة النخبة الأمريكية مجمعًا سكنيًا أقام به زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن لمدة عشر سنوات كاملة.. العملية التى لم تستغرق أكثر من نصف ساعة، كانت مفاجئة لـ«بن لادن» نفسه، الذى لم يُبدِ الكثير من المقاومة فى مواجهة القوات الأمريكية التى قتلته على الفور.
قبل رحيلها من منزل زعيم تنظيم «القاعدة»، وجدت القوات الأمريكية عددًا من الوثائق والمراسلات الخاصة بأسامة بن لادن، وسريعًا ما خرجت تلك الوثائق للعلن، لتحوى العديد من المفاجآت المرعبة، كان أبرزها علاقة قطر و«الجزيرة» بتنظيم «القاعدة» الإرهابى.
لم يكن الأمر يحتاج الكثير من التأكيد، فإن قناة «الجزيرة» كانت الوكيل الحصرى لعرض رسائل الفيديو المتلفزة لأسامة بن لادن، لا أحد على الإطلاق كان ينشر تلك الرسائل، سوى قناة «الجزيرة»، ثم تطور الأمر إلى حد مرعب، مع ظهور تنظيم «القاعدة» فى العراق، الذى تزعمه أبومصعب الزرقاوى، الذى أصبح فيما بعد «تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق»، قبل أن يتحول إلى «داعش» أو «تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام»، ومع ظهور هذا التنظيم الدموى، تبنت «الجزيرة» نشر عمليات قطع الرؤوس لرهائن كان أغلبهم من المدنيين المسالمين، ومن المراسلين الصحفيين، بل من هيئات الإغاثة الإنسانية.
الوثائق مع هذا أكدت ما كان معلومًا بالضرورة، ووضعت العالم كله أمام سؤال مهم، ماذا تريد قناة «الجزيرة» من المنطقة؟، وماذا تريد قطر أيضًا من المنطقة العربية؟، ولماذا تعمل على زعزعتها بهذا الشكل؟.. الإجابة عن هذا الأسئلة وغيرها موجودة فى مذكرات ووثائق «بن لادن»، والتى جاءت على النحو التالى:
فى رسالة أرسلها «بن لادن» إلى الشخص المكنى بـ «الشيخ محمود»، والتى حملت الرقم SOCOM-2012-0000015 فى وثائق «أبوت آباد»، قال «بن لادن» لـ«الشيخ محمود»، إن الذكرى العاشرة لما أسماها بـ «غزوة منهاتن»، أى أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001، تقترب، طالبًا أن يتم إعداد تجهيزات خاصة، والتواصل مع مراسل قناة «الجزيرة» الإنجليزية، لإخبارها بالاستعداد للتعاون مع القناة فى تغطية الذكرى العاشرة للأحداث.
زعيم «القاعدة» لا يطلب فقط من «الشيخ محمود» مجرد التواصل مع القناة، بل يقترح للقناة تبريرًا لمنتقديها، قائلًا: «سنستغل الذكرى فى الرد على أسئلة الجماهير المسلمة، ونشير إلى القناة بأن هذا إظهار للرأى الآخر».
«بن لادن» أكد أيضًا استمرار التواصل مع أحمد زيدان، مراسل «الجزيرة» فى باكستان، لإعداد برنامج يرد على استفسارات المشاهدين عن تنظيم «القاعدة»، وهو البرنامج الذى لم يخرج إلى النور على ما يبدو بسبب مقتل «بن لادن».
وفى الوقت الذى كان العالم فيه مصدومًا باستضافة أحمد منصور فى برنامجه «بلا حدود» الملثم الذى لم يكشف وجهه «أبومحمد الجولانى»، زعيم «جبهة النصرة»، فرع تنظيم «القاعدة» فى سوريا، كان اللقاء احتفاء كبيرًا بزعيم «التنظيم»، الذى أسقط لتوه محافظة أدلب السورية بالكامل، لتكون المحافظة الأولى التى تسقط بأكملها، لم يستوقف أحمد منصور المعروف بأسلوبه المتعجرف «الجولانى» فى دعواته لقتل الشيعة والعلويين إذا لم يعلنوا إسلامهم، أو يدفعوا الجزية، لم يستوقفه فى دعوات التفجير والتفخيخ والقتل والترهيب ويرد عليه، فى مشهد مخزٍ.
لكن أسامة بن لادن على ما يبدو لم يكن يعرف أن خليفته فى سوريا بعد أربعة أعوام من مقتله سيلقى هذه الحفاوة من أحمد منصور.
ففى نفس الرسالة إلى «الشيخ محمود» رفض أسامة بن لادن دعوة أحمد منصور للظهور فى برنامج «شاهد على العصر» الذى يقدمه أحمد منصور قائلًا: «فيما يخص برنامج شاهد على العصر فلا أميل إليه، حيث إن المذيع الذى يقدم البرنامج يخرج عن اللياقة فى بعض برامجه».
فى الرسالة نفسها، المرسلة إلى المجهول المسمى بـ«الشيخ محمود»، تبدو الصلة الواضحة بين أسامة بن لادن وتنظيم «القاعدة»، وقناة «الجزيرة»، فيقول «بن لادن»: «فيما يخص بث بيان أمريكا فيتم إعطاء نسخة منه لمراسل قناة الجزيرة العربية، ونسخة أخرى لمراسل قناة الجزيرة الإنجليزية، ليتضح موقفها أكثر، وتُخبَر القناة بأننا نريد بث البيان فى يوم 29 أكتوبر».
يفضح هذا المقطع من الرسالة العلاقة الوثيقة بين «الجزيرة» وتنظيم «القاعدة»، فأسامة بن لادن لا يرسل الشرائط مع عدد من المجهولين لمجرد بثها، بل يملى على القناة موعد بث البيان، بل ويبدو واضحًا أن الرسائل لا ترسل بالبريد من موقع مجهول مثلًا، بل إنها تسلم يدًا بيد، من خلال همزة وصل واضحة بين التنظيم والمراسل.
الأكثر من هذا أن أسامة بن لادن يطلب من القناة طلبات تقنية معينة فيقول: «كما أرجو أن تتم ترجمته مدبلجًا صوتيًا، وكذلك مرفق نسختان منه إحداهما مسموعة والأخرى مكتوبة».
«بن لادن» نفسه أدرك جيدًا ما تريده «الجزيرة» من نشر الرعب فى المنطقة، فقد رفضت القناة نشر رسالة من «بن لادن» يعزى فيها ضحايا الفيضانات الباكستانية، وفسر «بن لادن» فى وثيقة حملت الرقم SOCOM-2012-0000004 بأن القناة على ما يبدو لا تريد الرسائل ذات اللهجة الدبلوماسية، يقول «بن لادن»: «قناة الجزيرة اليوم على ما يبدو تشترط لتغطية بيان للقاعدة أن يحتوى على تهديد أو توعد أو تبنى لعملية ما، وأما الرسائل ذات اللهجة الدبلوماسية، مثل رسالتى الشيخ عن الفيضانات فلا تصلح للنشر عندهم».
وفى رسالة أخرى تدل على تدهور الأوضاع وانفلاتها من يد «بن لادن»، الذى بدأ أعضاء فى جماعته تنفيذ عمليات على غير هواه، انتقد «بن لادن» العمليات التى يقوم بها «الأوزبك» من جماعته، مطلقًا عليهم لقب «الفسقة»، وعددًا من التصرفات التى تصرفوها ولم تعجبه، فينتقد تهديدهم لمراسل قناة «الجزيرة» الإنجليزية، فى أحد إصداراتهم الإعلامية قائلًا: «هذا المراسل الذى أظهروا صورته، هو مراسل لقناة الجزيرة الإنجليزية، وهذا المراسل كان ينفى مسؤولية حركة طالبان عن تفجيرات الأسواق فى الوقت الذى كان غيره يتهمون الطالبان بها، ولكن لم يشفع له موقفه ذلك عند هؤلاء الفسقة».
«بن لادن» على ما يبدو كان مهتمًا ومتابعًا لـ«الجزيرة»، وكان واثقًا فيها إلى درجة كبيرة، إلى الدرجة التى طلب فيها التنسيق مع مراسل «الجزيرة» فى باكستان، أحمد زيدان، لإعداد حلقات عن سيرته الذاتية للعرض على القناة، خصوصًا أن تناول القناة لسيرته الذاتية فى برنامج «إسلاميون» لم تعجبه.
وفى الرسالة التى حملت رقم SOCOM-2012-0000019 كان «بن لادن» غاضبًا من عرض سيرته الذاتية فى برنامج «إسلاميون» الذى بثته القناة، فقال: «سبق أن شاهدنا فى الفترة الماضية بعض البرامج عن العبدالفقير كان آخرها برنامج الإسلاميون فى إحدى حلقاته، وكان أمرًا متكررًا فيها أنها تعتمد على معلومات غير صحيحة، وأحيانًا غير دقيقة، ومما لا يخفى عليكم أن الإنسان إن لم يفصح عن تاريخه فسيضع له بعض الإعلاميين والمؤرخين تاريخًا بما يتوفر لهم من معلومات، سواء كانت صحيحة أم خاطئة».
واستكمل «بن لادن» قائلًا: «فحتى لا يبقى فى الأمر هذا الخلط تبادر إلى ذهنى أن ترتبوا مع أحمد زيدان، مراسل الجزيرة فى باكستان، أن يعد هو برنامجًا موثقًا من طرفنا بمعلومات واقعية بما نرسلها إليكم فى رسالة قادمة».
وتابع «بن لادن» قائلًا: «ويكون من ضمن ما تتفقون معه عليه أن يكون هذا العمل مشتركًا بين الجزيرة والسحاب، الشبكة الإعلامية لتنظيم القاعدة، فتكون حقوق الإصدار محفوظة لهما».
التنسيق على ما يبدو ليس خبريًا فقط، أو سعيًا لسبق صحفى، بل الأكثر من هذا، فإن هناك تنسيق لنشر فيلم وثائقى فى الذكرى العاشرة لأحداث سبتمبر، ففى الرسالة التى حملت الرقم SOCOM-2012-0000015 يطلب أسامة بن لادن التنسيق مع الجزيرة لإمدادها بالأرشيف المطلوب عن تنظيم القاعدة، ومن ناحية أخرى يطلب من قناة الجزيرة إمداده بالأرشيف الذى تمتلكه القناة، لإعداد عمل وثائقى مشترك، فيقول بن لادن: «لدينا اقتراح للجزيرة، بأن يقوموا بإعداد فيلم وثائقى فى هذه الذكرى العاشرة ونحن سنزودهم بالمعلومات مقروءة ومسموعة ومرئية، ونرغب أن يفيدونا بمرئياتهم، وأهل الاختصاص فى هذا الباب، لوضع تصور للفيلم لتوضيح الأحداث وتداعياتها».
وعلى الرغم من الموقف العدائى بين الإعلام وأسامة بن لادن، فإن قناة «الجزيرة» كان لها وضع خاص لدى زعيم تنظيم «القاعدة»، إذ كان يصف بن لادن الإعلاميين بـ «شعراء الجاهلية»، أما قناة «الجزيرة» فقال عنها: «يحدث منها أخطاء أحيانًا تجاه تنظيم القاعدة»، إلا أنه وصف هذه الأخطاء بـ«المحدودة».
وفى خطابه الذى يحمل الرقم SOCOM-2012-0000016، الذى وجهه إلى شخص مكنى بـ«أبوبصير»، يقول أسامة بن لادن: «ينبغى التنبيه إلى أن النسبة الأكبر من المعركة هى إعلامية، وأن القنوات الفضائية اليوم هى أشد من الشعراء الهجائيين فى العصر الجاهلى، وأما الجزيرة فقد تقاطعت مصالحها مع مصالحنا».