حازم حسين يكتب: الثرثرة «كنز» لا يفنى.. شريف عرفة يصنع ضوضاء بصرية وتاريخية فى شريط مترهل.. فيلم «بارودى» بسيناريو مفكك وشخوص مسطحة ومونتاج كوميدى.. ملحمية ساذجة وصورة باردة وموسيقى تائهة والتمثيل «لم يحضر أحد»

الثلاثاء، 05 سبتمبر 2017 03:00 م
حازم حسين يكتب: الثرثرة «كنز» لا يفنى.. شريف عرفة يصنع ضوضاء بصرية وتاريخية فى شريط مترهل.. فيلم «بارودى» بسيناريو مفكك وشخوص مسطحة ومونتاج كوميدى.. ملحمية ساذجة وصورة باردة وموسيقى تائهة والتمثيل «لم يحضر أحد» المخرج شريف عرفة وأفيش فيلم الكنز

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

هل يعلم شريف عرفة أن تخطيط مشروع سينمائي ليكون فيلما متعدد الأجزاء لا يعني أبدا أنه لا جزء قائم بذاته، ولا أنه يحق له إنهاء فيلم كامل دون أن يقول شيئا مكتفيا بوعد اللقاء مرة أخرى؟ إن لم يكن يعلم رغم تاريخه الفني الطويل فتلك مصيبة، وإن كان يعلم فالمصيبة أعظم، إذ معنى هذا أنه قرر عامدا أن يثرثر ويصنع ضوضاء ويثير غبارا، وهو يوقن أنه لا يقدم للناس صنعة محبوكة ولا معنى كاملا، مجرد غابة من الحكايات والشخصيات والخطوط الدرامية، دون خريطة عاقلة للخروج من هذه المتاهة، أي أنه قرر مع سبق الإصرار والترصد أن يأكل بعقل الجمهور «حلاوة».. ولكن دون أي حلاوة للأسف.

6196d755-129e-4330-8564-fb13bcdc3c94_16x9_600x338

في شريطه السينمائي الجديد «الكنز» يتحمل شريف عرفة مسؤولية مركبة، فبحسب بطاقة بيانات الفيلم وضع الرجل القصة السينمائية، وعالجها وكتب السيناريو والحوار عبدالرحيم كمال، لهذا فإلى جانب مسؤوليته الفنية كمخرج يتحمل مسؤولية أدبية مباشرة عن المعالجة الحكائية باعتباره صاحب «القصة السينمائية»، وهذا التوصيف في ذاته يستوجب وقفة ما، كونه يمثل مناورة أولى ومراوغة متحذلقة بين التأليف والخياطة، بين إعداد نص سينمائي جديد في جوهره وإن استند لعناصر وتيمات قديمة، وتجميع «كولاج» من حقول شتّى دون أن يكون هذا التجميع تأسيسا لنص مستقل وقائم بذاته، هرب شريف عرفة بتوصيف «قصة سينمائية»، ربما ليقينه أن الفيلم يتكئ في الجانب الأكبر على رؤية تاريخية في وجه بسيط وطفولى، لم يشتبك معها اشتباكا حقيقيا رغم تقديم الشريط بعبارة هروبية «الفيلم يستلهم أحداث التاريخ ولا يلتزم بها»، لتتوالى الحكايات كاشفة عن تورطه الكامل في التاريخ دون خروج على هذا الالتزام، ربما كان الخروج الوحيد في تبسيط الحكايات وتفكيك تعقيداتها لصنع شريط مسلٍّ، أقرب لحكاية أطفال منه لفيلم جاد ذي أفكار ومضامين عميقة، حتى وإن ادّعى العمق، إلا أن التوغل والمراقبة يفضحان هذا الادعاء، ويدفعان في اتجاه أنك أمام ثرثرة بصرية وتاريخية، لا أكثر ولا أقل.

 

الكنز.. رحلة طويلة تقودها المصادفة إلى محطة "اللا شىء"

يحكي "الكنز" قصة حسن بشر الكتاتني، شاب يدرس المصريات فى إحدى دول أوروبا، لكنه يعود إلى الأقصر فى منتصف السبعينيات/ الزمن الواقعي للفيلم، إثر استدعاء من عمه الذي يرقد في فراش الموت، يعود الشاب ويرحل العم، وبينما يقرر "حسن" بيع قصر العائلة والعودة من حيث أتى، يكشف له أحد العاملين بالقصر سرًّا تركه له والده الراحل، بشر باشا قائد البوليس السياسي في مرحلة ما قبل ثورة يوليو 1952.

كان سرّ بشر باشا عبارة عن مخطوطات فرعونية وسيرة عربية مدونة وعدد من أشرطة السينما، لينقلنا هذا الميراث مباشرة إلى عدة حكايات وأزمنة، حتشبسوت وصراعها مع الكهنة والمنظومة السلطوية القائمة سعيا لتصدر الحكم دون حاجة لواجهة ذكورية، وعلي الزيبق ورغبته في الثأر لوالده مقدم الدرك حسن رأس الغول من قاتله سنقر الكلبي تاريخيا، أو صلاح الكلبي في الفيلم، وبشر باشا نفسه ورحلة ترقيه داخل المنظومة الأمنية الملكية وغرامه بالمطربة نعمات، وبينما يتوقع المتابع الذي اعتاد منطق السينما أن خيوط القصة التى تفرّقت وتوزّعت على يد الشاب العائد من الخارج، ستتجمع ثانية في يده بعدما نصل لحكمة العمل، أو جوهر الرؤية الممتدة التى اختار صناع "الكنز" توزيعها على ثلاثة أزمنة وتجميعها من ثلاث حكايات، لا يتحقق هذا التوقع، وينتهي الفيلم بحكاياته وشخوصه وخطوطه الدرامية المتشابكة إلى لا شىء تقريبا.

يبدأ الفيلم بالتأسيس لشخصية "حسن"، الطفل الصغير الذي يخاف عليه عمه من أجواء صراع غامض، يتجلّى في كر وفر وإطلاق نار، فيقرر تهريبه لأوروبا حماية له، وتنفيذا لوصية والده بأن يدرس علم المصريات، ولكن هذا التأسيس الأوّلي المهم جاء ناقصا ومليئا بالغرابة، فالسيارة التي تقل الطفل تتعرض لإطلاق نار، فيقرر مرافقه "الخواجة" فتح الباب وإطلاقه، ليركض الطفل في الشارع بينما تنفجر السيارة في الخلفية، دون أن نعلم مصير الخواجة، ولا كيف أفلت الطفل من المسلحين الذين استهدفوا السيارة، ولا كيف وصل لأوروبا؟!

 

كنز شريف عرفة.. البوصلة تضيع في بداية الرحلة

إذا حاولنا الدخول للفيلم من بوابته الأولى، بوابة الاسم، فقد اختار شريف عرفة أن يمنح شريطه اسمين، أو اسما مركبا لو شئت التبسيط، ليصبح "الكنز.. الحقيقة والخيال"، وفى مستويات القراءة الدلالية للعنوان في ضوء البناء اللغوي، تصبح "الحقيقة والخيال" إما وصفا للكنز، أي أننا إزاء حالة من التوهم شبه الواقعي، أو بدقة أكبر المزج بين المادي والمعنوي، كما يحتمل العنوان أن تكون "الحقيقة والخيال" بدلا من الاسم بالمعنى النحوي، أي أن الكنز هو الحقيقة والخيال ذاتهما، أو بمعنى أوضح التاريخ وما نتج على ضفته من تصورات ذهنية وأطر وعي، أو من فن وإبداع، المهم أن مستويي العنوان يشيران أوليًّا إلى أن الكنز يقع في دائرة القيمة النوعية، أو القوة الناعمة، ووفق هذه القراءة يمكنك توقع أن "حسن" الذي عاد من أوروبا ليبيع البيت ويرحل، لن يرحل، إذ لو رحل يتبدد الكنز الذي لا يكتسب صفة مادية مباشرة، وإنما يرتبط بسياق وموروث لا يتحققان إلا في فضائهما الأصلي، ولكن الغريب أن الفيلم سرعان ما يجاهر بهذا التحول، لا يتركه للاعتمال داخل الشخصية، والتفاعل مع مثيرات نفسية وأحداث درامية، وكأنك أمام مسار موجّه فوقيا ولا تنبع قوانينه من داخله، فبعد الثلث الأول تهتز شخصية "حسن" وتقدم مؤشرات تقترب من اليقين على انقطاع أمل الرحيل، دون أي مبرر ناضج لهذا الاهتزاز.

يقدم الفيلم نفسه باعتباره رحلة بحث عن كنز مطمور، عَبَر المرحلة الفرعونية، وأفلت من النهب المنظم في الفترة العثمانية، ولم تصل إليه يد مصر الملكية، ويُفترض أن يكشف عنه الحاضر/ الزمن الواقعي للفيلم، الذي يدور في العام 1975، وفق هذا المنطق فإن الحكاية البطل هي حكاية الحاضر، والشخصية البطل هي شخصية "حسن"، ليس فقط لأنه المنذور لاستخراج الكنز المطمور، وتحقيق ما لم يحققه سابقوه طوال آلاف السنين، ولكن لأن الفيلم اختاره لأن يكون مسرودا أو مرويا عليه، بمعنى أن الحكايات تتدفق إلينا من داخل حكاية "حسن"، تتوزع الخيوط من مكتبه وأوراقه وشرائطه، ونرى القصص الثلاثة المحكية بعينيه، وننتقل زمنيا وفق وعيه وفاعليته العقلية في التعامل مع الحكايات الثلاث، ولكن رغم البطولة التى يفرضها منطق الشريط لـ"حسن" وزمنه، لم يحقق المخرج وكاتب السيناريو هذا الأمر عمليا، كان حاضر الفيلم الحكاية الأكثر فقرا على مستوى الدراما والأحداث وبناء الشخصيات وصياغة علاقاتها ونمو صراعاتها، كانت الأقل حظا في الاهتمام بشريطي الصورة والصوت، وبالعنصر التمثيلي، وبالإيقاع وتصاعد الحدث وتنامي الزمن، بل والأغرب أن "حسن" نفسه كان الشخصية الأقل حظا فى التأسيس لها، إذ لا نعرف من هو من الأساس، ففي زحام التفاصيل لم يؤسس السيناريو لعلاقة البنوّة التي تجمع حسن بـ"بشر باشا"، وعلى امتداد الشريط لن تجد تأسيسا لهذه العلاقة إلا بحديث "بشر" في الأشرطة المسجلة، وتعامل "حسن" والمحيطين به على أنه سليل هذا الرجل، ولكن ماذا عن الأحداث وتفاصيل الدراما؟ أرجوك لا تبحث عنها، فلن تجد شيئا فعلا.

2_1

في حوار بين "حسن" و"قادم"، خادم المنزل الذي يستقبله لدى عودته، يقول الشاب العشريني إنه لم ير والده، وفي موضع آخر يقول إن والده مات منذ عشرين سنة، أي أن "بشر باشا" مات في 1955، بينما تنتهي أحداث قصته بنهاية الفيلم خلال العام 1947 - بالنظر لتكليفه بتتبع خُطّ الصعيد وهي القضية التي أثيرت في هذا العام، وقبلها قضية اغتيال أمين عثمان في 1946 - وكانت القصة قد انتهت ولم يتزوج بشر باشا من المطربة نعمات بعد، ولم يكن أنجب من زوجته الأولى، التي ظهرت في مشهد واحد كسيدة أربعينية تعيّره بفضل والدها عليه فى الترقي والوصول لمنصبه، أي أن قصة "بشر" في الفيلم انتهت ولم ينجب "حسن" بعد، الذى لا نعرف هل هو ابن الزوجة الأولى الأربعينية أم ابن زوجة أخرى، ليست "نعمات" بالطبع لأنه يتحدث عنها بصفة "الست نعمات" وليس باعتبارها أمه، كما لا نعرف كيف يعود "حسن" وهو في منتصف العشرينيات أو أكثر، أي أنه ولد في 1950 أو ما قبلها، ولم يلتق والده الذي مات بعد هذا التاريخ بخمس سنوات، في الحقيقة لا نعرف إن كان "بشر" والده من الأساس أم تبناه من أحد الملاجئ، فشريف عرفة وعبدالرحيم كمال لم يهتمّا بشخصيتهما الأهم، وفق منطق الفيلم ورهانه وأطروحته، كان الأهم بالنسبة لهما الجري بين القصص وغابة التفاصيل، وربما تنجح هذه الغابة في صرف أنظار الجمهور عن ثغرات الفيلم التأسيسية وعشوائية بنائه لشخصياته، وضياع بوصلته منذ بداية الرحلة.

 

الزمن والزحام والإيقاع.. "الكنز" بين تفتيت الحكايات واستنساخها

السؤال الأوّل، ربما حتى قبل مشاهدة الفيلم، هو هل يحتاج مخرج سينمائي لـ165 دقيقة لصنع شريط قال منذ البداية إنه متعدد الأجزاء؟ الخبرة البصرية والسينمائية قد ترجح أنك لا تحتاج أكثر من ساعتين لتحكي تاريخ العالم بأكمله، إن كنت تصنع فيلما وتعمل بروح سينمائية لا تليفزيونية، بالتأكيد هناك استثناءات، ولكن فكرة الاستثناء نفسها تجبرك وأنت تتحسس ساعتك أمام فيلم طويل كهذا، أن تتحسس ذائقتك وماكينة تلقيك، لاختبار إيقاعه ونجاحه في الموازنة بين طول الشريط وكثافة الحكايات ومنطق الإيقاع السينمائي.

يدور الفيلم على أربع مستويات زمنية وأربع حكايات ظاهريا، ولكنها ثلاث حكايات في الحقيقة، حكاية بشر باشا وامتدادها الحاضر في قصة ابنه حسن، وحكاية علي الزيبق وسعيه للثأر من صلاح الكلبي، وحكاية حتشبسوت وصراعها مع الكهنة، سؤال الفيلم يرتبط بالأساس بشخصيتي "بشر" و"حسن" والكنز الذي تركه الأول للثاني، ولكن كخريطة للكنز تم تفتيت هذه الحكاية وتوزيعها على حكايتين أخريين، فبينما تنحصر حكاية حتشبسوت في الصراع مع الكهنة/ رجال الدين، وتنحصر حكاية على الزيبق في الصراع مع مقدم الدرك/ السلطة، تشتمل حكاية "حسن وبشر" على مستويي الصراع، الدين والسلطة، وتشترك الحكايات الثلاثة في كثير من التفاصيل المرتبطة بالمفتاحين، وفي حضور "الحب" كمفتاح من مفاتيح تشكيل هذه الخريطة المفتتة، التي يُنتظر تجمعها ثانية للوصول للكنز، وكان يمكن قبول حالة التشظي التي انتهجها الفيلم في بناء رحلة بطله نحو الكنز، لو أنه كان تشظيا واعيا ومتزنا ويقود باتجاه الكنز فعلا، فبينما يُفترض عقلا في تفتيت الحكاية الأم إلى حكايات فرعية مرتبطة بها، حتى لو كانت الروابط واهية، أننا إزاء خطوات تتكامل لتبني جسرا يقود للكنز، نكتشف أن الحكايات الفرعية بمثابة الكورس أو الجوقة التي تعيد ترديد الحكاية الأصلية بحذافيرها، أو التنويع عليها بشكل يحفظ جوهرها، وكأن الفيلم يؤكد على الدائرية التاريخية وأن الحكايات كلها، الحقيقي منها والخيالي، ظلال لحكاية واحدة، تحب حتشبسوت بدمائها الملكية مهندسا معماريا من عامة الشعب، ويحب علي الزيبق ابنة قاتل أبيه، ويحب بشر باشا مغنية من مغنيات الصالات، تسعى حتشبسوت لانتزاع السلطة رغم إرادة الكهنة، ويسعى علي الزيبق لقتل غريمه/ تجريده من سلطته، ويسعى بشر باشا لحماية سلطة النظام وبقائه، وعلى هذا المنوال يمكنك تتبع الخيوط المكررة بين القصص، ليس تكرار الامتداد والتواصل، ولكنه تكرار الإعادة والتكريس، إلى حد استنساخ شخصية الحكيم الفرعوني "إني/ عبد العزيز مخيون" في القصص الثلاثة.

المنطق الذي تعامل به شريف عرفة مع قصته السينمائية باختيار المقاطع الأفقية للحكايات التي قرر تقديم رؤيته من خلالها، بانتخاب خطوط محدودة واستبعاد السياق الاجتماعي الواسع لكل حكاية وزمنها، ثم عبدالرحيم كمال مع السيناريو والحوار، بتنميط بعض الشخصيات وتثبيت المستوى اللغوي وإعادة إنتاج بعض الجمل والحِكَم من قصة لأخرى، ثم شريف عرفة ثانية في المعالجة الإخراجية، باختياره للشخصية البصرية لكل حكاية وتماثل الأجواء وبصمة الصورة، وآليته للانتقال الزمني بين القصص، كلها قادت "الكنز" لأن يكون قصة واحدة معادة ثلاث مرات، أو بدقة أكبر 55 دقيقة معادة ثلاث مرات، وهو ما صنع حالة شديدة الثقل من الترهل والمط والاستطراد، وسرّب إحساسا - لا تغيب عنه الدقة بالمناسبة - ببدانة الفيلم ورتابة إيقاعه، رغم كثافة الحكايات والشخصيات والتفاصيل، وتنوع المستويات الزمنية والمكانية، وهو التنوع الذي كان يضمن تدفقا وإمتاعا وخفة دون مجهود، لو أُحسن توظيفه، ولكن تشوش الرؤية لدى شريف عرفة، وقبله عبدالرحيم كمال، دفع الفيلم باتجاه ورطته الكبرى، وجعله زحاما رتيبا مفككا وشبه متطابق، رغم ما يدعيه من مغايرة وتنوع، وما يسعى إليه من تاريخانية وملحمية.

472201708220229352935

السقوط في رهان "دراما الأزياء".. هكذا تورط الكنز في ملحمية ساذجة

حاول الكنز عبر خلطته الدرامية وما صدّره من مضامين فكرية هوياتية، أن يكون فيلما ملحميا، وباعتبار الملحمية سياقا حكائيا يستعرض قضية كبرى لمجتمع أو مجال جغرافى، أي يستعرض بطولة سياق لا بطولة أفراد، يمكن ظاهريا اعتباره فيلما ملحميا، غير أن الاقتراب من جوهر صنعته ربما يكشف غير هذا.

الملحمية في تعريفها الأبسط، هي حكاية درامية تقوم في جوهرها على تلمُّس المفصليات والمنعطفات الكبرى، لهذا تتوارى الشخصيات في حضورها الفردي المباشر، لصالح الحدث أو الفعل الدرامي، وتتقدم الرواية بضمير الغائب، عوضا عن الرواية بضمير المتكلم في الحكاية الغنائية، والرواية بالحوار المباشر في الحكاية الدرامية، وبحسب "هيجل" فإن "الملحمة تملك بعدا تأسيسيا قويا، وتحكي حلقة متصلة بالعالم الكامل لبلد أو لفترة من الزمن"، وقد استند الفيلم في كثير من تقنياته إلى مفاتيح بدائية للطرح المحمي، فبحسب المخرج المسرحي الألماني إرفين بيسكاتور يمكن تحقيق الملحمية في الدراما عبر وسائل التقنية والجمل المكتوبة واللجوء لصيغة الراوي الشعبي واستخدام الوثائق والشرائط المصورة والإزاحة الزمنية للموسيقى واللغة، وتوظيف الغناء والاستعراض، وهو ما اعتمده برتولد بريخت في تأسيسه للملحمية بمعناها التغريبي، أي الانتصار لضمير الغائب في مقابل بطولة التشخيص الإيهامي للحدث، بما يضمن انفصال المتلقي عن الحكاية، لرؤيتها من الخارج وتفكيكها ومحاكمتها دون تورط مباشر فيها، بتوحد مع حوادثها أو شخوصها.

لجأ "الكنز" في بنائه إلى كثير من هذه التقنيات، فاستخدم الجملة المكتوبة في بداية الفيلم "روح العاشق المغامر روح حرة، وهي وحدها القادرة على العبور من الزمن لأنها تملك السر"، كمفتاح من مفاتيح فك شفرة العمل، كما استخدم تقنية الراوي بشكل مباشر عبر المنشد في قصة علي الزيبق، ومونولوجات الكباريه وأغنيات "نعمات" في حكاية "بشر باشا" التي جرى توظيفها كخلفية موسيقية وتفسيرية لحكاية حتشبسوت، أو كمعادل لبعض الأحداث والصراعات في قصة الزيبق، واستخدم الإزاحة الزمنية لغويا وموسيقيا في توحيد مستوى الحوار في القصص الثلاثة، واستخدام مفردات خارج سياقها الزمني مثل "مدمن وإرهاب" في حكاية بشر باشا في الأربعينيات، ووضع القصص الثلاثة على خلفية موسيقية عصرية ولا تنتمي لحقولها الزمنية، كما حلت الوثائق والأشرطة الوثائقية في أكثر من موضع، أبرزها استخدام مقاطع فيديو قديمة في مشهد المظاهرات في قصة "بشر"، كان الفارق الجمالي واضحا بين الصورة الأصلية والوسيط التاريخي المستخدم، واضطر المخرج لتغيير عدساته وروح صورته في القصة للاقتراب من خط التناسب بين الصورتين، ورغم هذا لم تكن مبررة بأي شكل إلا في إطار أن "الكنز" يبحث عن صيغته الملحمية.

تُعرف الملحمية في السينما باعتبارها "دراما الأزياء"، لأنها تستعرض دراما إنسانية على نطاق واسع، ومستويات اجتماعية وتاريخية وجغرافية متنوعة، ما يستتبعه تنوع بصري على مستوى الملابس، وبالطبع على مستوى فضاء الحكاية، إضافة إلى التصميمات الخاصة في الديكور والاكسسوار والمعارك، والتنفيذ المتقن لكل هذا شرط أساسي لاقتناص الروح الملحمية، ولكن لم يكن هذا المستوى من التنوع والفخامة والإتقان حاضرا في "الكنز"، القصة واحدة يُعاد استنساخها من حكاية لحكاية، الصورة بتكويناتها الثابتة والبشرية وعناصرها الجمالية لم تكن مبهرة، الاستعراض والمعارك لم تكن جيدة الصنع، الموسيقى والأغنيات لم تكن حاملا موفقا لفضاء الحكاية الملحمية، في النهاية اقترب "الكنز" من شكل الملحمة وخاصم روحها، وتصاعدت حدة الخصام مع إصرار عبدالرحيم كمال على تطعيم السيناريو والحوار بمسحة صوفية غريبة، الكلمات الموجزة حِكَمية الطابع، القلوب التي تنازع العقول في سلطانها، الشخصيات التي ترى مستقبلها وتتحرك بيقين وثبات في اتجاهه، حتشبسوت التي آمنت بمهندسها "سيننموت" بمجرد أن لمس روحها رغم أنها لم تر من هندسته إلا ما قاله عن أحلامه، الشيخ "على الله" الذي يظهر لـ"الزيبق" ظهورا واعيا في هيئة طيف صوفي، خادم المنزل "قادم" الذي يتقمص روح الشيخ مع مريده "حسن"، ويوجهه ويُبصّره ويزجره أحيانا، المحامي صديق بشر باشا "عبدالعزيز النشار" الذي يعلم أن "حسن" لن يرحل رغم تأكيد الأخير قرار رحيله، وعشرات من التفاصيل التي تفيض بمنطق "الكشف والإلهام" الصوفي، فترى الشخصيات في ضوئها ما لا يتحقق واقعا أو ما يستبق الزمن وتسلسل الحوادث، ومنطقها أحيانا، فكأنك أمام مفتاح درامي جديد اسمه "من حلّ عليه الفضل أراه الله ما شاء له أن يراه"، ووسط هذه الغابة من الرهانات والتشتت والطمع في قول كل شيء بكل الطرق، تعثر الفيلم في طريقه، وسقط في فخ "الملحمية الساذجة".

 

الخلط المنهجي.. "الكنز" يتعثر بين الفانتازيا والواقعية والرمزية

أبرز ما يثيره "الكنز" هو سؤال التصنيف، فالفيلم الذي ينحو منحى ملحميا، يقترب في حكايته الأم، حكاية بشر باشا وامتدادها في ابنه "حسن" من الواقعية، يتلمس الحوادث التاريخية وبنية العلاقات والصيغة الاجتماعية بشكل توثيقي، ولكنه في الوقت ذاته ينحو في قصة على الزيبق منحى قريبا من الفانتازيا التاريخية بأجوائها المتاخمة لفكرة الأسطورة، وفي القصة نفسها يقدم دراما عاطفية في خط علاقة "علي" بـ"زينب" ابنة صلاح الكلبي، رغم أن "الزيبق" شخصية تراجيدية بامتياز، يسير لمصير يبدو مأسويا ينتظره في نهاية رحلته المقطوعة بسبق إصرار وترصد، أما في حكاية حتشبسوت فيتورط "الكنز" في الميلودراما العاطفية بأجواء رومانسية مفرطة في التبسيط ومغرقة في المأساوية، وبين كل هذه الخلطة، لا ينسى صناع "الكنز" التورط في الرمزية.

سعيا إلى بناء نموذج "أليجورى"، حوّل الفيلم شخصياته إلى رموز، عبر تجريدها وقصقصة أجنحتها ونزعها من فضائها الاجتماعي والإنساني، فيجعل من حتشبسوت معادلا للحق، ومن تحتمس الثالث الخضوع والتسليم بالواقع، ومن سننموت الحب الأفلاطوني، ومن الكاهن الأكبر الغطرسة الدينية ونهم السلطة، ومن المعلم "إني" الروح المتنورة، ويقابلهم بالترتيب علي الزيبق، ووالدته فاطمة الفيومية، وزينب، وصلاح الكلبي والشيخ هيبة، والشيخ الصوفي الذي يظهر كالطيف لـ"الزيبق"، ويقابل الفريقين بالترتيب في الحكاية الأم، بشر باشا، وشقيقه مصطفى، والمغنية نعمات، والإخوان والمعارضة القاتلة، والشيخ الذي يظهر للسادات ومصطفى الكتاتني في السجن، ولعلك لاحظت في التقابل أن بشر باشا يقابل حتشبسوت وعلي الزيبق كمعادل للحق، رغم أنه قائد البوليس السياسي الذي يقوم بدور صلاح الكلبي أو الكاهن الأكبر في مصادرة إرادة الشعب بغطرسة القوة أو سطوة العقيدة وإرادة السماء، ولكن السيناريو الساعي إلى الترميز واستنساخ الحكايات في بنية دائرية متوالية، اختار أن يروي قصة "بشر" على لسانه، وأن يجعله حارس الهوية/ الكنز، الذي سبقته حتشبسوت وعلي الزيبق في حراسته.

في إطار سعيه لهندسة هذا البناء الرمزي، سعى "الكنز" لأن تكون الشخصيات امتدادا لبعضها في تدرج للصراع، إذ يمتد خط الغطرسة الدينية من الكاهن الأكبر إلى الشيخ هيبة إلى الإخوان، مع امتداد روح التنوير والكشف (الصيغة الأخرى للدين) من الحكيم إنّي، إلى الطيف الصوفي، إلى الشيخ السجين، والشخصيات الثلاثة يؤديها عبدالعزيز مخيون، في رمزية لأن صور التطرف والغطرسة قد تتغير، ولكن ماء العقيدة الصافي ثابت لا يتغير، وبينما يتأسس الصراع في قصة حتشبسوت بين الدين والسلطة بشكل مباشر، يقوم صراع قصة الزيبق بين السلطة والسلطة/ مقدم الدرك الحالي وابن مقدم الدرك المقتول، ويحضر الدين متفرجا، وداعما على استحياء للسلطة القائمة في مشهد ناطق وحيد ظهر فيه الشيخ هيبة، وفي القصة الثالثة/ الأم، يتطور الأمر إلى صراع بين السلطة والشعب، ويحضر الدين بنوعيه، المتطرف والمتنور، داخل السجن، هكذا قادت الرمزية التي تورط فيها عبدالرحيم كمال وأكّدها شريف عرفة بصريا، الفيلم الذي يراهن على كنز معنوي يتأسس على التراكم الحضاري والمخزون الثقافي، وتوفيق العقل والقلب، البدن والروح، المادية والصوفية، إلى خطاب حاد ومستبعد لأحد المكونات، مكون العقيدة المنفية من صراع القصة الأم، والحاضرة خلف الأسوار، في زمن يُفترض أنه زمن التأسيس لاكتشاف الكنز، فكأن الكنز في التخلص من الكاهن الأكبر والحكيم، ومن الشيخ هيبة والطيف الصوفي، ومن الإخوان والشيخ المتسامح، أي التخلص من الدين لصالح العلم والسلطة مع سيننموت وحتشبسوت، والحب والقوة مع زينب وعلي الزيبق، والمدنية والقبضة الأمنية مع بشر باشا.

الثنائيات السابقة يمكن اختزالها في العلم والحب والمدنية، باعتبار السلطة والقوة والقبضة الأمنية تنويعات لمفهوم واحد، يتحقق بتحقق فكرة الدولة المستقرة، ولكن الفيلم الذي يدشن بناءه الرمزي ويصنع غابته الملتفة من القصص والشخصيات والتفاصيل ليؤسس للكنز القائم على العناصر الثلاثة، العلم والحب والمدنية، أو العقل والقلب والروح بتجريد أكبر، يسمح بهزيمة العلم في مشهد سننموت والكاهن الأكبر حول التصدي للفيضان، ويسمح بهزيمة الحب بإجبار علي الزيبق على الهروب وترك زينب، ويسمح أيضا بهزيمة المدنية بتفجير الصالة، ثم قتل بشر باشا ومحاولة قتل أخيه وابنه واستمرار عمليات الاغتيال والتصفية وفتح دائرة واسعة من الدم وصولا إلى ترهيب عائلة "العاصي" لحسن بشر سعيا لإجباره على بيع البيت القديم، بل وإمعانا في التنكيل بالمدنية يجمع الإخوان والسادات في السجن سنة 1947، متهمين بالإرهاب والاغتيال السياسي، بينما يبدأ حكايته من العام 1975 وقد أصبح السادات رئيسا وتحالف مع الإخوان ضد الجميع، رغم إغفال الفيلم التام لهذا الخط المهم وتجاهله لشخصية "السادات" في الزمن الواقعي للفيلم، وهو أمر غريب وغير مفهوم، وإلا لماذا أسس له بواقعة اغتيال أمين عثمان، ما دام سيتجاهله في حاضر الفيلم الذي أصبح يهيمن عليه؟

 

حكاية وتقنيات وشريط.. هل وجد شريف عرفة وكتيبته الكنز؟

إذا تجاوزنا رهان الرؤية والمضمون، وحاولنا الاقتراب من رهان الصنعة، وكيف حقق شريف عرفة وكتيبته شريطهم السينمائي، فأول ما يستوقفنا القصة السينمائية التي وضعها المخرج، اختيار المستويات الزمنية الثلاثة للقصص لم يكن مؤسّسًا على منطق واضح، في القصة الأولى كانت مصر إمبراطورية حرة ومتقدمة، في القصتين الأخريين كانت بلدا محتلا، غابت قضيته القومية والهوياتية لصالح خطوط هامشية ودراما سطحية، فإذا كان الكنز صنيعة الزمن فقد شارك في كنز مصر محتلون ووافدون، وإن كان صنيعة شخصيات فقد حمل بصمة غير مصرية أيضا، وإن كان قيمة معنوية ثابتة فلماذا كان الاحتلال أصلا؟ أو بمعنى أوضح، فإذا كان "الكنز" هو مجموع المسافة بين أقدم خطوط الزمن وأحدثها، بين حتشبسوت وحسن بشر، باعتبار حتشبسوت زمن التكوّن المستقل، و"حسن" زمن الكشف/ المستقل أيضا، أى خلاصة الروح والعقل والجغرافيا والذاكرة الحية، أي أنه مصر نفسها، فكيف يمكن أن يكون زمنا "الزيبق" و"بشر باشا" حارسين للكنز، وهما زمانا اضمحلال، سلّما مصر للاحتلال، أو على الأقل ارتضيا به؟! 

اقترب سيناريو عبدالرحيم كمال من القصة السينمائية بخفة، لم يؤسس لحكاياته بعمق، ارتضى فتات الدراما وأكثر خطوط القصص هامشية ليصنع منها عالمه، مراهنا على دفع الدراما للأمام من بوابة الحوار، غاب التناسب بين أحجام القصص ومساحات احتلالها للشاشة، بدت بعضها أكثر ثراء وحركة من غيرها (قصة بشر باشا في مقابل قصتي حتشبسوت والزيبق)، فاختل اتزان الفيلم وتأثر إيقاعه بالحيز الزمني للفضاءات البصرية المختلفة، وغاب التنامي الدرامي المتولد عن علاقات قوى وصراع، لصالح المصارعة اللغوية المتقمصة وجها حِكَميا فلسفيا، وكان الحوار في جانب كبير عابرا فوق منطق الحكايات ووعي الشخصيات، فالجمل الملخصة لفلسفة الحب التي ينطقها الحكيم الفرعوني ترد بروحها وصيغتها تقريبا على لسان علي الزيبق، منطق حتشبسوت من صراع القلب والعقل وتوزعها بين الحب والسلطة، يطابق منطق بشر باشا قائد البوليس السياسي، وفي القلب من هذا يجلس عبدالرحيم كمال الذي صاغ شخصيات مسطحة وأحادية البُعد وأقرب للأماثيل والرموز منها للحم والدم، ليكتب تصوراته ورؤاه لا هموم الشخصيات ولسان حالها، لهذا لا تستغرب إن وجدت المهندس سننموت يقول للأطفال وهو يعلمهم الرسم: "بعد آلاف السنين الناس لما تشوف الرسم والنحت ده..."، أو أن يقول صلاح الكلبي لحسن رأس الغول في قصر والي دمشق: "البلد محتلة مننا إحنا العثمانيين".

ديكور أنسي أبو سيف لم يلتزم منهجا واضحا ومتماسكا، كان واقعيا في حاضر الفيلم وقصة بشر باشا، أقرب إلى التعبيرية مع لمسة كوميدية في العصر الفرعوني، وتورط في رؤية وتصور سياحيين في قصة علي الزيبق، خاصة مشاهد السوق التي اقتربت من روح خان الخليلي وشارع المعز الفلكلورية، ووسط هذه الإيجاز للانطباع العام للديكور، يحضر الفقر أو الاصطناع في بعض اللوكيشنات، مثل قاعة اجتماعات الكهنة التي جاءت فقيرة وبائسة للغاية، والملهى الليلي الذي كان مصطنعا ويبدو عصريا بدرجة كبيرة رغم محاولات مستميتة للإيحاء بالقِدَم من خلال الاكسسوارات والملابس غير الموفقين، والمشاهد الخارجية في قصة علي الزيبق التي استخدمت المباني المملوكية في مصر خلفية للأحداث، بينما يظهر كثير منها متهدما أو منزوع التكسيات و"على اللحم"، لتظهر الأحجار والفواصل بل وقوالب الطوب الأحمر التي لا يمكن قبول أنها تعود لقصة علي الزيبق، أو أن الوالي أو مقدم الدرك سيقبلان العيش في قصر قديم ومتهدم، فمن حيث أراد مهندس المناظر أن يوحي بالقدم والتاريخية، صنع صيغة بصرية أكثر قدما من محمولها الدرامي نفسه.

224

الملابس والماكياج والموسيقى.. محنة "الكنز" الضائع فنيا

يتحمل أنسي أبو سيف إلى جانب الديكور فاتورة أخرى أكبر، فباعتباره مشرفا فنيا على الفيلم فإن باقي عناصر الصورة تقع في عهدته، خاصة ملابس ملك ذو الفقار التي انزلقت في المنزلق نفسه، أي أنها لم تلتزم منهجا واحدا، ولكن ملابسها في المجمل كانت فقيرة وساذجة للغاية، بل وكوميدية في قصة حتشبسوت، ولم تكن دقيقة في بعض تفاصيل قصة علي الزيبق، مثل مشهد الفقراء الجالسين في الشوارع، إذ تبدو ملابسهم أقرب إلى الجلابيب الريفية المعروفة في مصر حاليا، ولم يكن الأمر بعيدا عن هذه البساطة والارتجال فيما يخص الاكسسسوار، خواتم وقلادات الكهنة وأدوات البخور والتماثيل وقطع الأثاث كانت أقرب لمنتجات خان الخليلي، وكذلك العقد الفرعوني الذي منحته فاطمة الفيومية لابنها علي الزيبق، وأوراق البردي التي تركها بشر باشا لابنه حسن، كانت كلها خفيفة وحديثة العمر وتشبه المستنسخات التي تباع في البازارات ومحلات الأدوات المكتبية.

الماكياج كان مأساة كبيرة، كثير من الشخصيات لم تتغير هيئاتها رغم مرور الزمن، صلاح الكلبي وفاطمة الفيومية والشيخ هيبة ظلوا على صورهم الأولى رغم تحول علي الزيبق من الطفولة للشباب، سننموت وحتشبسوت والكاهن الأكبر والحكيم إنّي أيضا لم يكبروا رغم بداية الحكاية وحتشبسوت في التاسعة عشرة من عمرها، وانتهائها بموت تحتمس الثالث وهي في الرابعة والثلاثين، وحتى من تغيرت ملامحهم كان التغير للأسوأ، شعر المطربة نعمات الأبيض وشارب مصطفى الكتاتني وشيب عبدالعزيز النجار كلها لم تُنفّذ باحترافية، كان ظاهرا جدا أنها مصطنعة وساذجة، وكان مفضوحا للمشاهد أن هذه النقلة العمرية للشخصيات غير حقيقية، لا شك فى أن الأمر يعود لضعف قدرات الماكيير، ولكنه بالتأكيد يرتبط أيضا بمدير التصوير، فإضاءة أيمن أبوالمكارم بصورة عامة كانت كاشفة، إنارة أكثر منها إضاءة فنية، حتى أنها فضحت ماكياج الشخصيات غير المتقن، مستويات تدفق الضوء للصورة السينمائية عالية على امتداد الشريط، رغم اختلاف القصص وتفاوتها زمنيا وشعوريا، في قصة علي الزيبق كانت تعبيرية في بعض المناطق، زوايا الكاميرا جاءت في كثير من المشاهد متعامدة على زاوية الانعكاس المباشر للضوء، ربما يعود الأمر لرغبة "أبوالمكارم" في صنع صورة تبدو جميلة، أو أن الأمر كان استجابة لتوجيهات شريف عرفة، ولكن المحصلة أن الصورة كانت باردة بدرجة كبيرة، مصنوعة بتنميق وترتيب زائدين عن الحد ومتجاوزين لما يحتمله السياق والوظيفة البصرية للكاميرا والنور، بينما جاءت مشاهد الجرافيكس فقيرة ومضحكة، اللقطة العامة للقاهرة المملوكية التي افتتح بها الفيلم عددا من المشاهد كانت أكثر كثافة وثراء مما تحتمله حالة القاهرة وقتها، وكذا اللقطة العامة للقاهرة الأربعينية التي جاءت مبهرة ومليئة بالبهرجة والأضواء والألوان كأنها قاهرة عصرية أو قاهرة التسعينيات بلوحات الإعلانات وإضاءة الشوارع الكثيفة، وهو الملمح الذي سيطر على باقي مشاهد المؤثرات التي لم تتوافق مع حالة الفيلم والبذخ الإنتاجي.

موسيقى هشام نزيه تاهت في زحام التداخل والاختلاط بين القصص والشخصيات والأزمان والأفكار والمناهج، لم ينجح "نزيه" في صنع شريط موسيقي ملفت، يمتلك بنية ثابتة قابلة للتنوع، يُعاد إنتاجها في القصص المختلفة وفق روحها الدرامية وفضائها التاريخي وتحولات صراعاتها، كانت الموسيقى محايدة فلم تتورط في الاشتباك الحقيقي مع الفيلم بساعاته الثلاث وقصصه الأربع، حاول "نزيه" التحايل على هذا بتقديم الوتريات في توزيع بعض الجمل بقصة علي الزيبق، وربما لغياب المعرفة بالموسيقى الفرعونية لم يقترب من المغامرة ومحاولة المغايرة في هذه المساحة، إضافة إلى إلزامه بأن تكون موسيقى وألحان الأغنيات والمونولوجات في قصة "بشر باشا" تفسيرا أو تعليقا أو خلفية لبعض صراعات قصتي حتشبسوت وعلي الزيبق، وهو ما قاده في النهاية لصنع موسيقى وألحان استاتيكية لا تتبدل بتبدل الحالات والصور والأزمنة، يُضاف لهذا مفارقة ألحان الأغنيات لزمنها/ الأربعينيات، وألحان الراوي الشعبي في قصة علي الزيبق لروحها الشعبية وارتدائها لباسا أقرب إلى الكلاسيكية الغنائية، وعلى شاكلة أزمة الموسيقى كانت أزمة كلمات الأغاني، لم ينجح أمير طعيمة في صنع أغنيات مقتربة من روح الأربعينيات ومعجمها الغنائي، ولم يكن موفقا في كتابة مقاطع الراوي الشعبي التي تستند على صيغة الموال أو رباعيات فن الواو، ولأنه كان يعمل في إطار توجيهات إخراجية على ما يبدو، لجعل أغنيات فترة الأربعينيات مفسرا ومعلقا على الفيلم بكل قصصه، تقمص روحا فلسفية وحكائية نوعا ما، كأنه يقدم وجها آخر للراوي الشعبي، كما ابتعد عن حسّية الأربعينيات وأجواء أغنيات الصالات في هذه الفترة، وبالمنطق نفسه جاء غناء نسمة محجوب والشيخ إيهاب يونس، كان تطريبيا متجاهلا للوظيفية المرتبطة بحالته، فلم يعبر إيهاب يونس عن الصراع والتوتر والدرامية كما يليق بالراوي الشعبي، ولم تُثر نسمة محجوب حالة الدلال والإغراء التي عرفتها صالات الأربعينيات، والأمر نفسه لاستعراضات عاطف عوض، التي كانت عصرية قائمة على لياقة الراقصات وبصورة أقرب للرقص التعبيري المعاصر، منها لرقص الصالات القائم على ليونة الجسد وأدائيته الجنسية.

 

المونتاج يعمق أزمة ترهل الفيلم وبطء إيقاعه.. والتمثيل "لم يحضر أحد"

المونتاج أحد أكبر أزمات الفيلم، إذ لم يتمكن من خلق حالة التوازن النسبية بين القصص متفاوتة الكثافة والعرض، فاسترسل مقص داليا الناصر مع المشاهد المليئة بالاستطراد، لم يكن حساسا وحصيفا في اختيار أوقات القطعات، كما اعتمد في تحقيق النقلات الزمنية وحالة الربط بين القصص على المزج بين المشاهد بمستويات وحالات مختلفة، وامتد المزج في بعض المشاهد لعدة ثوان، ما زاد من الإحساس بطول المشاهد وتباعد النقلات، وعمّق من أزمة الترهل وبطء الإيقاع، يُضاف لهذا الوقوع في عدد من المشكلات المرتبطة بتركيب المشاهد في إطار التسلسل الحكائي للقصة، والنموذج الأبرز قدوم صلاح الكلبي لمصر عقب قتل حسن رأس الغول وهروب زوجته وابنه الطفل علي الزيبق، وبينما حمل "الكلبي" رسالة من الخليفة لوالي مصر بفرض ضرائب جديدة، نفاجأ بعد نقلات زمنية عدة ووصول "الزيبق" لسن الشباب، بمشهد لـ"الكلبي" يتحدث فيه عن بدء تطبيق الضرائب والرد على المعترضين بشدة وحزم، في ثغرة زمنية تمتد لأكثر من خمس عشرة سنة بين تسلسل يُفترض أن يكون متتابعا لأنه يخص حدثا واحدا، وبالمنطق نفسه شاعت على امتداد الفيلم ملاحظات فيما يخص تنامي الأحداث وتركيب المشاهد، ربما تسبب فيه التقطيع بين أربع مستويات زمنية وتداخل الحكايات في عقل السيناريست أولا، ثم في عقل فريق الإخراج، وصولا إلى المونتير.

الأزمة التي صنعها المونتاج لـ"الكنز" وإيقاعه وتسلسل حكاياته، تسبب التمثيل في أزمة مماثلة لها، فبينما سعى "الكنز" لأن يكون عملا ملحميا، وتورط بوعي أو غير وعي في صنع أمثولة رمزية، جاء التمثيل تقليديا تقمصيا، وفي الوقت الذي تستوجب فيه الملحمية، بحسب برتولد بريخت، تراجع بطولة الشخصيات لصالح بطولة الموضوع، أى أن يأخذ الممثل موقفا ويقف على مسافة واضحة من الشخصية، وتستوجب الرمزية أن يكون الأداء محايدا غير متورط في شبهة اجتذاب المتلقي للتوحد مع السياق الإنساني للشخصية، تسابق الممثلون دون استثناء على تقمص شخصياتهم والإغراق فيها حدّ التوحد، ولكن لأنها شخصيات أحادية البُعد ومسطحة من منشأها الورقي، لم تتوفر المساحة الملائمة لإنضاج هذه الرؤية التمثيلية، حتى لو تغاضينا عن اصطدامها برهان الفيلم فنيا، وتوزعت مشكلات التمثيل بين مستويات عدة، أبرزها الاختيار غير الموفق، مثل أحمد حاتم في دور حسن بشر بأداء مصطنع وتعالٍ على الشخصية، وهاني عادل في دور سننموت برومانسية كاريكاتورية وضعف القدرة على تنظيم المشاعر والمواءمة بين الحوار وتعبيرات الوجه، وأمينة خليل في دور المغنية نعمات بنظرات بلاستيكية وانفعالات محايدة، وعباس أبوالحسن في دور صلاح الكلبي بوجه محايد أو تعبيرات مضحكة أحيانا، ومحيي إسماعيل في دور الكاهن الأكبر بأداء افتعالي وتطويل ومط للحروف والشفاه والملامح، وهيثم أحمد زكي في دور مصطفى الكتاتني بعجزه عن قراءة مستويات الشخصية وتحولاتها، وإغراقه في تقمص روح والده الفنان أحمد زكي، مثالا مشهد وداع "حسن" الطفل قبل سفره، ومجدي عبيد في دور بائع النحاس المغربي بأداء أقرب لروح المهرج مع قدر من المبالغة، وعبير فاروق في دور زوجة "بشر باشا" بأداء حاد وملامح عنيفة لا تناسب شخصيتها الأرستقراطية، أما بالنسبة لباقي الشخصيات فكان الأداء الباهت عنوانا لأغلب الممثلين، جميل برسوم في دور تحتمس الأول، ورمزي لينر في دور تحتمس الثاني، وعبد العزيز مخيون في أدوار الحكيم إني/ الشيخ على الله "الطيف"/ والشيخ السجين في فترة الأربعينيات، والشحات مبروك في دور عمر "معلم علي الزيبق"، وسوسن بدر في دور فاطمة الفيومية والدة الزيبق، ولبنى محمود في دور أم بشر باشا، ومحمد محمود عبدالعزيز في دور الملك فاروق بأداء مستند إلى الملامح والتشابه الشكلي، وأحمد صيام في دور الشيخ هيبة الداعم لصلاح الكلبي، والأخيرين يشفع لهما ظهور كل منهما في مشهد واحد دون أي تأسيس أو ملامح للشخصية، ومحمد رمضان في دوري حسن رأس الغول وعلي الزيبق، إذ لم يقترب من الوعي العميق للشخصية في أزمتها تراجيدية الطابع، لم يبدُ قابضا على حالة التوزع بين الحب والثأر، ولم يسيطر على تعبيرات وجهه وجهازه الصوتي الذي كان جافا في أغلب الأوقات وتسربت من خلاله روح محمد رمضان الخاصة وأدواره السابقة، ولم يفلت من هذه الفخاخ إلا محمد السني في دور "قادم" خادم منزل بشر باشا، بأداء متراوح بين الحزم والحنو الأبوي مراعيا حدود الدور كبوابة لـ"حسن" على اكتشاف عالمه الجديد، و"روبي" في دور زينب ابنة الكلبي وحبيبة الزيبق، بأداء مناسب للشخصية ومساحتها، ناقلا توتر قصة الحب مع خصم والدها، مع الحفاظ على قدر من الرومانسية المغلفة بالدلال والقلق دون افتعال أو تزيد، وأحمد أمين في دور المونولوجست إذ وفرت له الشخصية غطاء مناسبا للانفعالات المبالغ فيها، ولكنه كان تقليديا ومتورطا في روح إسماعيل ياسين بدرجة ما، وأخيرا محمد سعد في دور بشر باشا، الذي توفرت له فرصة لعب الشخصية الأكثر تماسكا ونضجا على الورق، والوحيدة التى نجح عبدالرحيم كمال في صياغتها ومنحها أبعادا ومستويات نفسية وانفعالية متعددة وثرية، ولكن رغم إجادة "سعد" في تجسيد الشخصية، انفلتت شخصية اللمبي من قمقمه في أكثر من موضع، كما اعتمد على طبقة صوت عريضة وخشنة وتشبه الحشرجة، ربما لمنح الشخصية وقارا زائدا وإكسابها خشونة تليق بموقعها الأمني، ولكن هذا الصوت كان سببا لتوريط الشخصية في التنميط والاصطناع، وفي المجمل يمكن القول إن الأداء التمثيلي لم يكن ملفتا بالدرجة التي يبشر بها رهان الفيلم وتنوع قصصه، فالتمثيل بإيجاز غير مخلّ "لم يحضر أحد".

472201708260546424642

شريف عرفة.. المغامر الذي اكتفى بالضوضاء وإثارة الغبار

الإخراج لا يحتاج لتسجيل ملاحظات جديدة، فكل ما سبق يتحمله شريف عرفة جنبا إلى جنب مع العناصر الفنية، إن لم يكن نصيبه منه أكبر، وضع "عرفة" القصة السينمائية وأخلى الطريق لعبدالرحيم كمال لمعالجتها، وقَبِل معالجة مهتزة تقدّم قصصا مفرّغة من مضامينها العميقة، وشخصيات أحادية مسطحة، وحوارا متفلسفا حِكَمي الطابع، أطلق يد أيمن أبوالمكارم في إنارة المشاهد وصنع صورة سياحية لا تدفع الفيلم بنائيا ودلاليا، أو طلب منه هذا، ارتضى تصورات أنسي أبوسيف وملك ذو الفقار البصرية ولم يلحظ الخفة والكاريكاتيرية والفقر في المناظر والخلفيات والملابس والاكسسوارات، فرض على هشام نزيه وأمير طعيمة صنع موسيقى وأغنيات خارج إطارها الزمني ومجالها الجمالي، وفرضها على كامل الشريط دون مراعاة لمستويات السرد التاريخية وما تقتضيه من حوامل تعبيرية في شريط الصوت تشتبك مع الحكاية وتفسرها وتدفعها للأمام، ووجه داليا الناصر للتحايل على الروابط الزمنية المفككة باللجوء للمزج والمسح بما خصم من إيقاع الفيلم وزاد من الإحساس بامتداد المشاهد وبطء الإيقاع وترهل الشريط، ولم يسيطر على انفلات ممثليه ونزوعهم للاستظراف أحيانا، أو لم يوجههم بما يتماشى مع مقتضيات الحكايات وطبيعة الشخصيات، فجاء التمثيل باهتا وكاريكاتوريا ونمطيا في كثير من المواضع، وأخيرا سعى لصنع فيلم ملحمي وتأرجح بين الواقعية والرمزية، ليسقط في فخ المعالجة الساخرة للكلاسيكيات "البارودي" بقياس قصة على الزيبق على مقابلها الجاد في المسلسل المنتج بنفس الاسم سنة 1985 بطولة فاروق الفيشاوي، أو قياس قصة حتشبسوت على أي فيلم مصري أو أجنبي اشتبك مع الفترة الفرعونية، كليوباترا لإليزابيث تايلور إنتاج 1963 نموذجا، أو قياس قصة بشر باشا على الأفلام التي تناولت حكاية البوليس السياسي قبل ثورة يوليو، "غروب وشروق" لمحمود المليجي إنتاج 1970 نموذجا، بل لم ينجح في تعليق حكاياته وصنع نهاية مشوقة أصلا، فـ"نعمات" التي يختتم الفيلم وهي تنزف إثر تفجير الكباريه، هي نفسها التي بدأ بها الفيلم في زمنه الواقعي عجوزا في منزل بشر باشا.

عين شريف عرفة كانت مرتبكة بدرجة كبيرة، حركة الكاميرا لم تكن فيما يبدو مؤسسة على رؤية وموقف من الأحداث والشخصيات، كانت أقرب للارتجال دون داعٍ أو مبرر، مثالا مشهد حوار حتشبسوت مع الحكيم إني أمام قاعة اجتماع الكهنة، يبدأ المشهد بلقطة أمامية متوسطة تظهرهما أمام الباب، ولكنه سرعان ما ينتقل للقطة جانبية بعيدة لا يظهر فيها الباب أصلا، وهو الخلفية المهمة للحوار الدائر بينهما، بما يدور خلفه من مؤامرات واتفاقات، وبالمنطق نفسه كانت كثير من تحركات الكاميرا على طريقة "تغيير العتبة" وليس صنع شريط حكائي بصري يقترب من الحكاية الدرامية في توترها وتصاعدها، كما سعى إلى معالجة فقر المعارك والمطاردات ومشاهد الحركة بالتركيز على اللقطات المتوسطة والقريبة، التي سيطرت على أغلب الحكايات، ما خصم من مستوى الإبهار ومن الحالة الملحمية واختزل سياقات القصص الواسعة والمتنوعة بصريا وإنسانيا في شخوصها المباشرين.

أزمة شريف عرفة وفيلمه أن البوصلة ضاعت منه مع الخطوة الأولى، استهدف صنع فيلم فني وتجاري بأقصى درجات الإتقان التي يقتضيها كل شكل منهما، وأن يكون عمله استعراضيا غنائيا، وأن يكون ملحميا رمزيا، وأن يكون عاطفيا حركيا ميلودراميًّا فانتازيًّا، وأن يكون عن الحب والعلم والدين والسلطة والشهوة، فوضع عينه على كل الغايات مرة واحدة، عبأ الفيلم بزوائد بصرية وحوارية ومشاهد لا غاية لها إلا تحقيق حلمه الشخصي بإنجاز كل شيء في شريط واحد، هكذا جاءت استعراضات الكباريه ومونولوجات أحمد أمين كزوائد دودية لا يضر حذفها، بل يفيد، وجاءت مشاهد حتشبسوت وسننموت المفرطة في الرومانسية على شاطئ بحر أو بحيرة لا نعلم كيف عثر عليهما شريف عرفة في الأقصر، وجاءت رحلة علي الزيبق ووالدته التي أرادها رحلة ثانية للعائلة المقدسة، بصريا وتشكيليا، وغير ذلك من التفاصيل التي تورط فيها ولم يلحظ الثغرات التي تتوسع على امتداد الشريط، لم يؤسس للشخصيات، ولم يحفظ اتزان القصص وأوزانها النسبية وإيقاع الفيلم، لم يوازن بين الدورين الوظيفي والجمالي لعناصر شريطي الصورة والصوت، ولم يلحظ جملة شريكه السيناريست عبدالرحيم كمال التي أعاد إنتاجها في كل القصص، حتى في حاضر الفيلم على لسان حسن بشر "اللي عايز كل حاجة مش بياخد حاجة"، وهو ما سقط فيه شريف عرفة الذي أراد كل شيء فلم يحقق شيئا.

أفدح ما فعله شريف عرفة بفيلمه وفريق عمله وجمهوره، أنه أنهى جزأه الأول دون إغلاق أية قصة من القصص أو الوصول بفيلمه لبر أمان، متورطا في خلل بدائي ولا يليق بهاوٍ، فما يطرحه "الكنز" حلقة معلقة من مسلسل على حلقات أخرى، وليس فيلما تاما ينتظر زميلا جديدا في عائلة، يضيف إليه بعلاقات الجوار والتتابع، ولا يُكمل فيه نقصا أو يسدّ فراغا، فإما أن تفترض غير المقبول عقلا ولا منطقا، وهو أن شريف عرفة وعبدالرحيم كمال تاها في غابتهما فاختلطت عليهما الأمور والمفاهيم ولم يعرفا "كيف تصنع فيلما طازجا دون تورط في تعبئة دراما التليفزيون في ماكينة السينما"، أو أن تفترض أن الفيلم كان جزءا واحدا ولكنهم اكتشفوا طوله المفرط في اللحظات الأخيرة للتجهيز، فقرروا قسمته لفيلمين، ولا يهم أين تضع السكّينة لتقطع، وهذه أيضا - ناهيك عن غرائبيتها - جريمة لا تُغتفر إن كانت حقيقة، المحصلة أن شريف عرفة ارتبك وتأرجح وسقط عن حبله أو كاد، صنع زحاما بصريا وتاريخيا يقترب من الضوضاء، وأثار الغبار الكثيف على شريط مترهل، تاه صناعه وتاه مشاهدوه، إلى حد أن اقترابك الوافي من غابته سيحتاج منك 5000 كلمة كالتي قرأتها، تقترب من تفاصيل دقيقة وبديهيات ربما لا نحتاج في العادي وضمن صنعة واعية للاقتراب منها، ولعلك ترى هذا الطرح التفصيلي ثرثرة مملة، لن أختلف مع هذا التوصيف، اعتبره محاولة لمحاكاة الشكل الفني للفيلم، وإذا قبلت منطق «الكنز» فلا مبرر لرفض المنطق نفسه في قراءته، رغم أن هذا العرض ربما يقول ما لم يُوفق الفيلم في قوله، وإن رفضتَه ورأيته ثرثرة وضوضاء، فبالتأكيد سترفض رهان الكنز في 165 دقيقة تضلل أكثر مما تكشف، وتتلعثم أكثر مما تُبين، وهو رهان كان يمكن أن يكون أقصر وأخف وأكثر كثافة ورشاقة وجمالا لو تخلى شريف وعبدالرحيم عن كنز الثرثرة الذي لا يفنى لمن يحبون ضوضاء الدراما وأحبالها التي لا آخر لها.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة