في عالم الجريمة كل شيء مباح، اتهام وتخفي وإلصاق التهم بآخرين، ففي النهاية خلف القضبان كل شيء يمكن فعله، لكن ورغم هذا فالحقيقة أيضاً لا يمكن إخفاؤها مهما طال الزمان، ومهما كان فاعلها فلابد أن تأتي اللحظة الفارقة التي تكشف فيها الحقائق، ويعود الحق لأصحابه، "اليوم السابع" يقدم خلال شهر رمضان حلقات متتالية تحت عنوان " غرائب خلف القضبان" من وقائع كتاب " أغرب القضايا" للمستشار بهاء أبو شقة.
الحلقة الثالثة والعشرون..
انتهى الجزء الثانى من القضية باعتراف طليق زوجة الرجل الذى عرف دائما بشدته وبلطجته على الآخرين، وأجبر زوج زوجته الأول أن يطلقها قبل أن يتزوجها هو.. بقتلها وحرقها وهى حامل، وقضت محكمة أول درجة بالإعدام شنقاً للمتهم.
ويقول المستشار بهاء أبو شقة، كانت تلك هى أحداث القضية حسب ما نضخت به أوراقها.. فتقدمت بمذكرة ضمنتها أسباب النقض ..بأن المتهم أنكر ثم اعترف فجأة وبلا مقدمات على نحو ينبئ أنه كان يائساً من الدنيا.. رافضاً للحياة.. ومن المسلمات القانونية أن الاعتراف الذى يعول عليه كدليل إثبات معتبر لا بد أن يكون مطابقاً للواقع والحقيقة ومتفقاً مع الأدلة الفنية فى الدعوى..
تم قبول الطعن وقض المحكمة بنقض الحكم المطعون فيه وإعادة محاكمة المتهم مجدداً أمام دائرة غير التى أصدرته..
وجاء ميقات محاكمة المتهم مجدداً.. كانت المرة الأولى التى التقيت به.. كان شارداً مهموماً .. مشدوهاً.. حائراً .. حزيناً.. كانت ملامح اليأس تكسو قسمات وجهه البائس اليائس من الحياة ومن الدنيا ومن الناس أجمعين.. كان يردد أمامى أنه قنت من الحياة.. الموت أحب إلى نفسه من حياة تتسم بالذل والمهانة وفقد أعز الأحباب بعد أن انتزع القدر منه زوجته.. محبوبته أمام عينيه.. قسراً وعلى يد ذلك البلطجى الذى أهان كرامته وقتل سمعته واعتباره فى عيون القرية.. هل من السهل على نفسه نظرات الناس إليه، وحكمهم بأنه نذل جبان بدلاً من أن يحكموا هذا الحكم على هذا الطاغية الذى انتزع زوجته.. واغتصب محبوبته منه.
وسألت الدموع من عينيه وهو يردد أن أمنيته الوحيدة فى الحياة أن يعدم فوراً فما عاد يطيق الحياة فى الدنيا.. انعدمت فيها القيم وغابت عنها المبادىء.. وضاعت فيها المثل، وأصبحت القوة هى القانون والطغيان هو الدستور الحاكم.. وأضاف مستنكراً:
-كيف غابت هذه الفكرة عنى؟ نعم كان لا أن أقتله هو، فهو الجانى الحقيقى الذى حطم حياتى، وأضاع أمالى فى الحياة.. ما ذنبها حتى أقتلها؟.. كان حديثه مع نفسه- ومعى- أشبه بمن يهذى.
وأعدت سؤاله:
-ما وسائل الاعتداء على المجنى عليه.
فأجاب والعصبية لا تفارق نظرات عينيه ولا نبرات صوته: " أنا قتلتها .. أشعلت النار فيها.. مش برضه لقيتوا النار مولعة فيها؟.. عاوزين منى إيه أكثر من كده؟..
قلت له : أنت لم تقتل أحداً .. فيه سر أنت مخبيه .. إيه هو ؟ لازم أعرفه.. ضرورى تتكلم تقول الحقيقة.. اللى بتقوله كله كدب.. لا يمت بالحقيقة بأى صلة..
-فأشاح بوجهه عنى وأثر الصمت وقال والدموع تنساب على خديه.. وكأنه المطر فى يوم عاصف دون أن يحس بها:
-أرجوك أنا عايز أموت.. قالها ونبرات صوته.. تفضح ما بداخله من يأس ونفس محطمة رافضة الحياة مصممة على الموت.
فرجوته أن يثق بى وأن يفضى إلى الحقيقة إنه آثم فى حق نفسه.. وهو ومن ينتحر سواء وجزاؤه بذلك عند الله عظيم، وعقابه جهنم وبئس المصير.
أيقظت كلمة انتحار ضميره النائم من غفوته وحركت فيه الخوف من الله وعذابه إذا أصر على كذبه الذى هو الانتحار بعينه.. وأنه بات قاب قوسين أو أدنى من أن يخرج ما كان مدفوناً فى أعماقه ، حبساً فى صدره..
وفجأة وبصوت ملؤه التأكيد والتصميم.. صاح:
أنا فعلا مقتلتهاس.. واستطرد وقد ارتسمت صورة البراءة ناطقة فى عينيه.
-أقتلها إزاى وهى روحى وحياتى.. أنا كنت عايش على أمل أن ييجى اليوم وتعرف الحقيقة.. تعرف إنى مظلوم وأن جوزها هو الظالم المفترى الحقبقى وأنه حايسيبها بعد ما يأخذ اللى عاوزه منها وترجع لى تانى.
فبادرته مطمئنا بقولى:
-أنا مصدقك..أمال إبه اللى حصل بالظبط؟
فأجاب والحسرة تملاْ نبرات صوته.. المثقل بالأحزان..
-أنا جيت البلد متخفى عشان كان نفسى أشوفها..أعرف إيه أخبارها.. قلت يمكن يكون سابها أو طلقها أو تقدر حبى ليها ونهرب ونسيب البلد.. ونسسى الماضى.. أنا لو كنت عايز أقتل كنت قتلته هو..
قسألته ألم تعتد عليها بالضرب بأية ألة؟.. فأجاب طبعاً لا .. أضرب نفسى إزالى؟ دى كانت كل أملى فى الحياة..
فسألته ما سبب العثور على أثار البنزين بين أظافرك؟.. أجاب بلا تردد أو تلعثم " يابيه أنا زى ما قلت فى التحقيق.ز البنزين ده أنا حطيته على حطب علشان يولع بسرعة عشان أتدفى ودى الحقيقة".
فسألته من الذى أشعل النار فى جثة المجتى عليها؟.. فأجاب أنه لا يعرف عن مقتلها شيئاً.. كيف تم القتل.. من القاتل.. دافعه إلى القتل.."
ثم قال " مفيش غيره هوه اللى قتلها .. الغدر فى طبعه واللى فيه طبع عمره ما يغيره.. هو اللى قتلها بعد ما حقق غرضه ووصل للى هو عايزه يوصله.. وحانت ساعة المرافعة..وتم تأجيلها لاستجواب الطبيب الشرعى.
فى خلال هذا الوقت وقع زلزال يؤكد أن المتهم ليس هو القاتل، تم القبض على شاب بقرية هذا الفتوة يبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً إلا قليلاً.. كان قد تربص لهذا الفتوة بعد مقتل زوجته بسكين وانقض عليه وذبحه بعد أن نجح فى الإجهاز عليه..
وكانت قمة المفاجأة..
قد اعترف الشاب أنه هو قاتل زوجة الفتوة، وأن طليقها لم برتكب الجريمة، وقد آثر أن يقتلها وهى حامل حتى يعذب الفتوة طيلة حياته بعد حرمانه من أول ابن له تمناه طيلة حياته، وأصبح على شفا مولده وقد شارف هو الخمسين من عمره.
واستطرد الشاب فى اعترافه موضحاً أن هذا الفتوة قد قتل أمه- من قبل- بعد أن اغتصبها داخل مسكنها.. كان وقتها طفلاً صغيراً وشاهد المأساة.. احتبسها داخل قلبه الصغير.. ظل وحش الانتقام يقطن داخله يكبر معه كلما كبر سنة.. حتى جاء اليوم الذى هداه شيطان الانتقام فى أن يثأر لأمه.. ينتقم لشرفها من زوجة هذا الفتوة.
وأضاف أنه رأى الموت بعينه وهو مازال طفلاً لا يعرف معنى الحياة أو الموت عندما فتك هذا الخمزير بأمه، معتدياً على عرضها، سالباً شرفها ثم قتلها.. دفناً للجريمة.
قرر أن يحرق قلب هذا الفتوة ويقضى على كل أماله، فاستدرج السيدة إلى المكان المهجور بعد أن أخفى الجاموسة التى كانت ترعاها فى العشة.. وكان قد أحضر وأعد فيها "البنزين" وانهال عليها بالعصا على رأسها حتى سقطت على الأرض وتأكد من وفاتها، ثم سكب البنزين، وأشعل فيها النار، كانت شهوة ولذة الانتقام تملك عليه فكره.
لكم حزن الفتوة لم يدم طويلاً فقد تماسك وعاد لجبروته من جديد..عاد إلى مجونه وفجره ونزواته التى لا تنقطع..
وأضاف الشاب، أدركت أن انتقامى لم يصب منه مقتلاً وأن دائرة الانتقام لا تقفل بعد صممت على الخلاص منه تطهيراً للمجتمع من دنسه وحماية للأبرياء من شروره فقتلته.. ولكن الذى كشف الحقيقة هو "بطاقتى" الى تسقطت منى فى مكان الحادث.
دخل الشاب مصلحة الطب النفسى.. وخرج طليق المجنى عليها بتنفس هواء الحرية من جديد بعد إلغاء حكم الإعدام والحكم ببراءته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة