كانت الساعة الخامسة مساء 11 يوليو، مثل هذا اليوم، 1905 حين توفى الشيخ الإمام الأستاذ محمد عبده مفتى الديار المصرية، حسبما تذكر جريدة «اللواء» فى عددها 12 يوليو 1905، قائلة: «أنبأنا التليفون الإسكندرى البارحة بوفاة الرجل الجليل، والأستاذ الكبير العلامة النابغة المرحوم الشيخ محمد عبده مفتى هذه الديار، وما ذاع نعيه بين العالم المصرى حتى بدت الكآبة على الوجوه، وانقبضت النفوس، واندملت الأفئدة، لأن الموت إنما اغتال رجلا فى العقد السادس من عمره، وصل بذكائه المفرط وعمله الغزيز ومواهبه الوافرة إلى مركز سام، قل أن ينال غيره فى العالم الإسلامى من عظماء الرجال».
توفى الشيخ محمد عبده، وعمره 57 عاما، بعد مرض استمر عدة أشهر، وظل بمدينة الإسكندرية يغالب المرض ويغالبه، ويزوره العظماء والكبراء والعلماء، ويعنى به الكثير من البرنسيسات حتى أن بعضهم أرسل طبيبه الخاص لعلاجه، حسبما يذكر أحمد شفيق باشا، رئيس ديوان الخديو عباس حلمى الثانى فى مذكراته «مذكراتى فى نصف قرن».
كان مشهد تشييع جثمانه فى 12 يوليو 1905 حافلا وموكبا جليلا يليق بالرجل الذى شغل منصب مفتى الديار «فأضفى على ذلك المنصب سناء ومهابة لا عهد للناس بهما من قبل، ولم يجعل المنصب مقصورا على الإفتاء فيما يحال إليه من مسائل على غرار من سبقوه، بل وسع اختصاصه وزاد من نفوذه»، وفقا للدكتور عثمان أمين فى كتابه «رائد الفكر المصرى، الإمام محمد عبده».
غير أن الخديو عباس الذى عينه فى منصب المفتى عام 1899 استشاط غضبا مما جرى من مهابة فى موكب تشييعه، وكتب رسالة عنيفة إلى «شفيق باشا» يروى وقائعها، قائلا، إنه تلقى رسالة غاضبة من الخديو، يقول فيها: «قلت فى جوابكم الأخير إن المفتى مكث أربعة أيام كوامل من الجمعة 7 يوليو الجارى إلى الثلاثاء 11 منه، والروح تنازعه وهو ينازعها إلى أن غلبته فتركته، أى أنكم كنتم متوقعين له حصول الأمر آنا بعد آخر خلال هذه المدة، بل على ما بلغنا أن أقاربه حتى الحكومة جهزت له ما يلزم لتشييع جنازته قبل موته بيومين، وسعادتكم على ما أنتم عليه من معرفة الحقيقة والحالة فلم تستفهموا بإشارة برقية عما يلزم وقت أن تبلغ الروح الحلقوم، هذا أمر واجب عليكم كان اللازم أن توجهوا فكركم إليه قبل كل شىء ولكنه يا للأسف فاتكم»، يضيف الخديو فى رسالته: «علمتم بموته فكان من الضرورى أن تعلموا أيضا بأنه سترد إليكم تعليمات بخصوص ذلك الحادث، وما كنتم تبرحون السراى ولا إلى منزلكم حتى تأتى أوامر الخديو اللازم اتباعها».
بعد هذا التعنيف من «الخديو» لرئيس ديوانه يصل إلى كشف حقيقة مشاعره نحو الإمام محمد عبده، فيقول: «تعتقدون أن الجناب العالى لا بد أن يصدر أوامره بما يعمل إزاء هذا الأمر، فإذا أصدرت بعمل شىء فقوموا بتنفيذه، وإن وردت بدونه فاعلموا أن الأمر مهمل، الجنازة حارة والكلب ميت، فلا تعملوا شيئا، يظهر والله وأعلم، أنكم أردتم بالسير وراء نعشه المجاملة بعد الموت، وهو على ما تعهدون عدو الله وعدو النبى وعدو الدين وعدو الأمير وعدو العلماء وعدو المسلمين، وعدو أهله، بل وعدو نفسه، فلم هذه المجاملة؟!».
مضى الخديو فى رسالته يكشف أشياء كثيرة مثل رغبته فى أن تكون الجنازة ضعيفة تخلو من رجال الدولة، لكن حدث عكس ما أراد.. يقول: «صدرت لكم أوامر بما يعمل، فلم تبذلوا جهدكم فى تنفيذها، أين ذلك التنفيذ وقد سار فى الجنازة القاضى والشيخ حسونة (شيخ الأزهر) وغيرهم، وقلتم فى جوابكم إنكم منعتم الشيخ على يوسف (صاحب ورئيس تحرير جريدة المؤيد) من كثرة الإطناب والمدح، فما فائدة ذلك وأنتم أول من يعلم أن مثل ذلك ألفاظ سيالة تنقضى بمجرد النطق فلا أثر لها، و«المؤيد» أفرغ جعبته فى مدح الرجل فلم يُبق شيئا مما منع عنه، ولو فرضنا أن «المؤيد» لم تذكر شيئا للرجل، فهناك جرائد أخرى لا يمكن منعها تقوم بالإطناب والمدح، وقد قامت فعلا والأوامر العالية على خلاف ذلك، سعادة الدكتور أحمد زكى باشا موجود عندكم فلم لم تستشيروه؟ ألم تعلموا سبب امتناعه عن تشييع الجنازة؟ ألم تعتقدوا ما كان عليه المفتى من داء العداء والمعاكسة للدين وأهله وأنصاره؟».
الغريب أن حالة الغضب وصلت بالخديو عباس الثانى لدرجة أنه أرفق بالرسالة التى كتبها لرئيس ديوانه «شفيق باشا» ملحقا فيه قصيدة رثاء قالها أحد موظفى ديوان الأوقاف العمومية فى الشيخ الإمام، وطبعت بمطابع «ديوان الأوقاف»، وقال: «يجب أن يُعرف إن كانت مطبعة الديوان جعلت لأعمال المصلحة فقط، أو لها ولغيرها؟ أو لغيرها فقط؟».