زار الأديب والمفكر الفرنسى، ووزير ثقافتها، أندريه مالرو، مصر يوم 21 مارس 1966، واجتمع بالرئيس جمال عبدالناصر ساعة وأربعين دقيقة يوم 26 مارس، سلمه خلالها رسالة من الرئيس الفرنسى شارل ديجول.
كان «مالرو» - مؤلف رواية «الأمل» - الصديق الأقرب لديجول منذ عام 1945 أثناء الحرب العالمية الثانية، وأثناء زيارته لمصر كان الكلام يدور فى الصحف الفرنسية حول زيارة ديجول إلى القاهرة التى تأجلت من عام 1966، إلى العام التالى، لكنها لم تتم، واستقال ديجول يوم 28 إبريل 1969، واعتزل مالرو العمل السياسى، وتوفى عبدالناصر فى 28 سبتمبر 1970 ثم توفى ديجول فى نوفمبر من نفس العام، ولم يتحقق اللقاء بين الزعيمين التاريخيين، وكان ذلك محور نقاش فى الحوار الذى أجراه الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل مع «مالرو» فى باريس وتحديدا فى «مطعم لاسير»، ونشرته الأهرام فى 15 يناير، مثل هذا اليوم، 1970، بمناسبة ذكرى ميلاد جمال عبدالناصر الذى كان الأول بعد وفاته.
يصف «هيكل»، مالرو بأنه «القمة الباقية وربما الوحيدة من جيل الشوامخ الذين عاشوا المعاناة الفكرية الكبرى فيما بين الحربين العالميتين وبعدهما، وأنه من جيل سافروا بالأحلام مع النجوم وعادوا باليأس المحترق مع الشهب، كان يرى أن الإنسان ليست لديه فسحة من الوقت لكى يقاتل وينتصر لأن الموت سوف يجىء، لم يكن مستسلما وإنما مقاتلا على الدوام، كان يقاتل بالفكر وبالتجربة، وسجله فى الصين والحرب الأهلية الأسبانية، وفى مقاومة الاحتلال النازى لفرنسا شاهد على ذلك، كان دائما يؤمن بالقتال من أجل الكرامة الإنسانية ومن أجل حرية الإنسان».
دار الحوار بين الاثنين كنقاش حول العديد من القضايا الإنسانية والسياسة، وكان الموت والحياة والأثر الذى يتركه الإنسان مدخلا، قال «مالرو» إنه يذكر دائما تجربتين، واحدة تمثله، والثانية تمثل ديجول وسمعها منه، كانت التجربة الأول مع ستالين «الزعيم السوفيتى»، يذكر: «فى بداية الثلاثينيات (القرن الماضى) لقيت ستالين فى الكرملين فى موسكو، وكان فى قمة السلطة، كان فى مكتبه نموذج لكرة أرضية، تحدثنا عن أحوال العالم واقترب ستالين من الكرة الأرضية وحركها بيده وراحت تلف بسرعة، وقال لى: ترى يا مسيو مالرو كم هى صغيرة هذه الدنيا».
وعن التجربة الثانية التى تلخص ديجول يقول: «فى الأربعينيات ذهب ديجول ليقابل ستالين وكانا يتحدثان عن استراتيجية الحرب العالمية الثانية الكبرى، وقال ستالين لديجول: «ترى يا صديقى الجنرال، مهما فعلنا فإن الموت هو المنتصر الأعظم فى النهاية».
بعد أن روى مالرو الحكايتين، انتقل الحديث إلى عبدالناصر وديجول، والخسارة التى ترتبت على عدم لقائهما، يقول: «كان اللقاء بينهما يمكن أن يكون مثيرا من ناحية إنسانية وليس من ناحية سياسية فقط، إننى أعرف ديجول، وقابلت عبدالناصر، وسمعت من كل منهما رأيه فى الآخر، فى حياتهما وفى عملهما أشياء كثيرة مشتركة، كلاهما كان تجسيدا حيا لأمته فى فترة من الفترات المهمة فى تاريخها، هذا هو ما يفرق الشخصية التاريخية أو البطل كما يقولون عن غيره من الساسة، والحكام».
استطاع ديجول أن يجسد فرنسا فى وقت محنته، واستطاع عبدالناصر أن يجسد مصر فى وقت محنته، هذه قيمة عبدالناصر، التى سوف تبقى للتاريخ، إنه استطاع أن يجسد شخصية مصر، لو تعود للتاريخ فسوف تجد أن هذه أيضا هى قيمة نابليون، ليست مهمة معايير النصر والهزيمة، ليس المهم أن تعيش الشخصية التاريخية لأداء دورها كاملا - كما نتصوره - أو تذهب قبل تمامه، من منا يستطيع أن يقرر بداية أى دور ونهاية أى دور، نحن لا نستطيع ذلك حتى فى الخلق الفني، المعيار الحقيقى هو أن يستطيع إنسان فى مرحلة من التاريخ أن يكون هو تجسيد أمته، ضميرها، صوتها، إرادتها، فعلها»
استطرد «مالرو»: كانت بينهما وجوه شبه أخرى، ديجول فى فرنسا سنة 1940 بعد استسلام فرنسا للنازى، وعبدالناصر فى مصر سنة 1952 بعد حالة الضياع التى كانت مصر فيها، قام كل منهما من وسط الأنقاض رمزا للبعث، بعث الروح فى أمته، وديجول وعبدالناصر كلاهما فى خط عمله السياسى تمرد على القوى الغالبة فى عصره، وتمسك بمنطق الاستقلال، يتصل بذلك أن كليهما باختياره الحر وفى ظروف صعبة اختار وطنه، كان الاختيار المطروح أوعلى الأقل الشائع فى عصر ديجول وعبدالناصر هو الاختيار بين أمريكا وروسيا، ووضع الاختيار أمام ديجول، فقال: «فرنسا، ووضع الاختيار أمام عبدالناصر، فقال: مصر».
يضيف «مالرو»: كلاهما كان طويل القامة، أقصد معنويا، بحيث كان قادرا على الارتفاع فوق الصراعات ليكون حكما فيها، وكلاهما كان لديه حلم مستحيل أو شبه مستحيل، ديجول وحلم الوحدة الأوروبية، وعبدالناصر وحلم الوحدة العربية».
وتواصل الحوار..