كتب الإمام الشيخ محمد عبده رسالته النادرة إلى الأديب الروسى العالمى «تولستوى» بخط يده من بيته يوم 8 إبريل، فى مثل هذا اليوم، 1904، ورد عليه تولستوى بمثلها، والرسالتان محفوظتان بمتحف «تولستوى» فى روسيا، حسبما يؤكد الدكتور مالك منصور حفيد الإمام محمد عبده فى تقرير «رسالة نادرة بين محمد عبده وتولستوى» للكاتب الصحفى أشرف عبدالحميد»، موقع «العربية، 20 فبراير 2018».
كان محمد عبده وقتئذ مفتيا لمصر ورائدا تنويريا عظيما، وكان تولستوى «أحد أعظم الروائيين فى تاريخ الأدب العالمى»، حسبما تذكر مها جمال، فى ترجمتها وتقديمها لروايته «موت إيفان إيليتش»: «كان إصلاحيا عظيما قاوم الكنيسة الأرثوذكسية فى روسيا ودعا إلى السلام وعدم الاستغلال، وعارض القوة والعنف فى شتى صورهما، ولم تقبل الكنيسة بآرائه التى انتشرت بسرعة فكفرته، وأبعدته عنها».
تضيف «جمال»: «تطلع إلى الشرق، وقرأ القرآن فى ترجمته الفرنسية، ولا تزال نسخة من القرآن فى المتحف الأدبى الروسى «بيته»، فيها هوامش لملاحظات تدل على تمعنه فى قراءة القرآن، وكتب إلى ابنه أثناء زيارته لمصر عام 1904، يطلب منه أن يزوده بمعلومات حول الشرق»، وتأثر تولستوى بشخصية سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فوضع كتابه «حِكم النبى»، ويوضح مترجمه «سليم قبعين»، فى مقدمته، أنه كان ردا على تحامل المبشرين فى قازان على الدين الإسلامى، وصاحب الشريعة الإسلامية، فجمع أحاديث للنبى محمد وكتب مقدمة جليلة لها».
بهذه السمات حازت شخصية «تولستوى» على إعجاب الإمام محمد عبده، فكتب رسالته إليه وبدأها قائلا: «عين شمس - ضواحى القاهرة - فى 8 إبريل 1904، أيها الحكيم الجليل مسيو تولستوى»، وأضاف: «لم نحظ بمعرفة شخصك ولكن لم نحرم التعارف بروحك، سطع علينا نور من أفكارك، وأشرقت فى آفاقنا شموس من آرائك ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك، هداك الله إلى معرفة الفطرة التى فطر الناس عليها، ووقفك على الغاية التى هدى البشر إليها، فأدركت أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم ويثمر بالعمل، ولأن تكون ثمرته تعبا ترتاح به نفسه وسعيا يبقى وترقى به نفسه، شعرت بالشقاء الذى نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة واستعملوا قواهم التى لم يمنحوها إلا ليسعدوا بها فيما كدر راحتهم وزعزع طمأنينتهم، نظرت نظرة فى الدين مزقت حجب التقاليد ووصلت بها إلى حقيقة التوحيد، ورفعت صوتك تدعو إلى ما هداك الله إليه وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه، فكما كنت بقولك هاديا للعقول كنت بعملك حاثا للعزائم والهمم.
وكما كانت آراؤك ضياء يهتدى به الضالون، كان مثالك فى العمل إماما يقتدى به المسترشدون، وكما كان وجودك توبيخا من الله للأغنياء كان مددا من عنايته للفقراء، وإن أرفع مجد بلغته وأعظم جزاء نلته على متاعبك فى النصح والإرشاد هو الذى سموه بالحرمان والإبعاد، فليس ما كان إليك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس بأنك لست من القوم الضالين، فاحمد الله على أن فارقوك بأقوالهم، كما كنت فارقتهم فى عقائدهم وأعمالهم، هذا وإن نفوسنا لشيقة إلى ما يتجدد من آثار قلمك فيما تستقبل من أيام عمرك، وإنا لنسأل الله أن يمد فى حياتك ويحفظ عليك قواك، ويفتح أبواب القلوب لفهم ما تقول ويسوق الناس إلى الاهتداء بك فيما تعمل والسلام».
يختتم محمد عبده رسالته قائلا: «إذا تفضل الحكيم بالجواب، فليكن باللغة الفرنسية فأنا لا أعرف من اللغات الأوروبية سواها».
يرد تولستوى مخاطبا محمد عبده بـ«صديقى العزيز» ثم يقول: «تلقيت خطابك الكريم الذى يفيض بالثناء على، وأنا أبادر بالجواب عليه مؤكدا لك ما أدخله على نفسى من عظيم السرور حين جعلنى على تواصل مع رجل مستنير، وإن يكن من أهل ملة غير الملة التى ولدت عليها وربيت فى أحضانها، فإن دينه ودينى سواء لأن المعتقدات مختلفة وهى كثيرة، ولكن ليس يوجد إلا دين واحد هو الصحيح، وأملى ألا أكون مخطئا إذا افترضت، استنادا إلى ما ورد فى خطابك، أن الدين الذى أؤمن به هو دينك أنت، ذلك الدين الذى قوامه الإقرار بالله وشريعته والذى يدعو الإنسان إلى أن يرعى حق جاره، وأن يحب لغيره ما يحب لنفسه، وأود أن تصدر عن هذا المبدأ جميع المبادئ الصحيحة، وهى واحدة عند اليهود وعند البرهمانيين والبوذيين والمسيحيين والمحمديين.
واعتقادى أنه كلما امتلأت الأديان بالمعتقدات والأوامر والنواهى والمعجزات والخرافات تفشى أثرها فى إيقاع الفرقة بين الناس، ومشت بينهم تبذر بذور العداوة والبغضاء، وبالعكس كلما نزعت إلى البساطة وخلصت من الشوائب اقتربت من الهدف المثالى الذى تسعى الإنسانية إليه، وهو اتحاد الناس جميعا.
من أجل ذلك ابتهجت بخطابك ابتهاجا غامرا، وودت أن تقوى بيننا أواصر القربى والتواصل.
تفضل أيها المفتى العزيز محمد عبده بقبول وافر التقدير».