انطلق العالم من حالة الثقل إلى الخفة ومن الاستقرار ووضوح المشهد إلى السيولة فى كل شىء حتى فى الفن، فما إن تفتح مواقع التواصل حتى تجد مئات اللوحات وما إن تكتب اسما على الإنترنت حتى تصلك آلاف اللوحات والصور والمطبوعات الفنية، ويمكنك أن تختار من بينها بل وأن تطبع واحدة منها وتضعها على جدار بيتك، أى أنك يمكنك أن تملك عملا فنيا مقلدا لفان جوخ أو بيكاسو فى ثوانٍ معدودة، لكن لماذا لا يوجد بيكاسو جديد؟ الإجابة هى أن العالم لم يعد يحتمل الرمز الكبير أو النموذج العملاق "figure" فلقد صار كل شىء أخف ولم يعد المؤلف مشروعا فنيا عملاقا يشار إليه بالبنان بل صار منشئ محتوى يضع محتواه الفنى على فيس يوك وتويتر وإنستجرام وينتظر ما يمكن أن تلقيه إليه الأقدار.
لكن ذلك ليس عيبا بل إنها طبيعة الزمن فتأملها، يذهب الفنان أيضا إلى المعارض ويحظى بالتصفيق والإعجاب لكنه لم يعد نجما كبيرا فى سماء الفن، صارت لوحة زرقاء ملبدة بالغيوم، تتقافز فيها الصور والإشارات الفنية وتتوقف على حجم الإعجابات التى تضعها فى ذلك المصاف أو ذاك.
سنتابع هنا الفارق بين القرن العشرين والقرن الحالى، وسنقول مثلا إن بابلو بيكاسو قبل مائة عام كان قد أنتج لوحة dance أو الرقصة وقد كان بابلو بيكاسو رسامًا ونحاتًا وصانع طباعة إسبانيًا وهو الفنان الأكثر سيطرة وتأثيراً فى القرن العشرين كما كان رائدًا فى الفن التكعيبى وساعد فى اختراع الكولاج وكان أيضًا مساهمًا رئيسيًا فى السريالية.
ابتكر بيكاسو أهم أعماله الفنية من عام 1901 إلى عام 1949 وستجد مواقع تعرض لوحاته المعلقة فى أعظم المتاحف الفنية فى العالم لكنها أيضا معروضة على الإنترنت فالآن لديك فرصة لتعليق أعمال بيكاسو فى منزلك.
أثر التكنولوجيا
هذه السيولة التى وضع أرضيتها الإنترنت جعلت فعل الاكتشاف يفقد أهميته فلم يعد هناك رغبة فى اكتشاف فنان جديد وأرض جديدة للفن فها هو بيكاسو نفسه يمكن لأى شخص كان طباعة لوحاته ووضعها فى المنزل، إذا هل اكتشف بيكاسو الجديد؟ لا سأكتفى بالقديم.
يعرف هذا التأثير بأثر الإنترنت أو أثر التكنولوجيا وهو أثر يحول كل شىء إلى منتج رقمى وبالتالى تتراجع أهمية اللوحات والمعارض والألوان، فالمنتج الرقمى يسحب الطاقة البصرية الإنسانية ويسحب الطاقة الشعورية الإنسانية إلى أرضه والصورة الرقمية تأخذ وضعها.
غياب التيارات الفنية
قبل مائة عام كانت الحركة التجريدية تنشأ، وكان هناك تيارات من التأريخ الفنى فعاش بيكاسو مثلا الفترة الزرقاء على مدى ثلاث سنوات بين عامى 1901 وحتى عام 1904 حيث رسم كل شىء أزرق وقد كان هناك مؤرخون يتابعون تأثيرات الفن فى القرن العشرين.
لكن التيارات الفنية فى القرن الحادى والعشرين أكثر خفة فهى لا تحرك شيئا من مكانه بل تتصاعد فقط لبعض الوقت ثم تخبو ولا يوجد تأريخ حقيقى لها ولافهم واضح ولا رغبة في ملء السياق بل يمكن فقط أن تكون الفكرة هي العنصر المؤثر بمعنى أن الفنانين صارت تجذبهم الموضوعات المعاصرة والطرق الجديدة في التعبير الفني، وكيفية استخدام التكنولوجيا لإنتاج اللوحات التي تملأ الفراغات وتسطر نفسها ضمن كتاب الفن.
تغير مفهوم الفنان النموذج
استطاع بيكاسو على سبيل المثال باعتباره أهم فنان في القرن العشرين خوض كل المجالات الفنية المتاحة، حتى أنه دخل مجال النحت والطباعة، بالإضافة إلى الفن التشكيلى وهو ما لم يعد متاحا الآن فقد بات الفنان نفسه يؤمن بالتخصص فما إن يتحول إلى نحات حتى يترك الرسم والعكس وما إن يكتب الرواية حتى يتوقف عن كتابة الشعر، هذا هو الزمن، ممر ضيق هو المتاح لك فقط، أما توسيعه فإنه يحتاج جهدا فائقا لا يملكه إلا أولئك الذين قدموا من القرن الماضى.
هل تعرف الفنانين الأوروبين المعاصرين؟
تحتل لندن المركز الأول وفقا لتصنيف تقرير شركة بوستر الألمانية عندما يتعلق الأمر بالفنانين المعاصرين فالمدينة الإنجليزية هي مسقط رأس العديد من الفنانين مثل تريسي أمين وأنتوني جورملي وجيمس ناريس وريتشارد هاميلتون.
تقع باريس وراءها حيث أنتجت العاصمة الفرنسية أيضًا بعض الفنانين المعاصرين المعروفين ، مثل صوفى كاليه، أوكريستيان بوتلانسكى أو كاميل هينرو وتحل ورائهم في أوروبا مدينة أمستردام مع فنانين مثل ساسكيا دي براو وروب شولتي وإنيز فان لامسويردي ، الذين ولدوا في المدينة الهولندية.