فى مطلع رسالتى، ونحن نحتفل بميلاد شخص المسيح القدوس، أُصلى أن يكون ميلاد المسيح سبب فرحة تغمرك، وسلام يحيطك، وطمأنينة تسودك وسط عالم مُضطرب بأجواء مُتغيّرة.
وتتركز رسالتى فى ميلاد المسيح فى الآية الواردة فى بشارة متى، الإصحاح الثانى والآية الأولى: «وَلَمَّا وُلِدَ يسُوعُ».
المتأمل يرى أن هناك أمورًا عظيمة حدثت فى ميلاد المسيح، أقتطف منها عزيزى القارئ بعض الأمور:
• بميلاده غيّر العالم والحياة • وبميلاده اهتزت الأرض والسماوات • وبميلاده تحققت النبوات، وبميلاد المسيح أيضا تغير العالم وتغيرت الحياة، وكيف لا؟ ألم يغير التاريخ حين جاء فصرنا نقول قبل المسيح وبعد الميلاد؟!
التغيير يأتى عادةً بالتأثير، ومَن ممّن وطأت أقدامهم أرضنا ترك أثرًا كما ترك المسيح؟! فميلاده العذراوى أثر فى البعيد والقريب، كيف ولد هذا العجيب العظيم بدون زرع بشر، نعم وألف نعم: «اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ ٱلْعَلِى تُظَلِّلُكِ، فَلِذَلِكَ أَيْضًا ٱلْقُدُّوسُ ٱلْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ٱبْنَ ٱللهِ» لُوقَا 1:35.. هذه هى البشارة التى تكلم بها الملاك للقديسة العذراء مريم.
وكيف أثّر بحياته؛ فعاش وجال على أرض الخطيّة بلا خطيّة، وفى أرض المعصية بلا معصية، فهو القدوس الذى لم يُخطئ ولم يعرف خطيّة، ولم يفعل خطيّة، وهو بلا خطيّة بشهادة الجميع، فكانت حياته جاذبةً للنفوس وقصته أعظم قصة مُؤثّرة فى تاريخ البشرية.
وكيف أثر بكلامه، فقال القليل بأعظم المعانى، فانظر إلى تعاليمه وموعظته على الجبل، إذ صارت كلماته مبادئ وسُننًا نعيشها ونحياها، لأن كلامه هو روح وحياة، بل صار كلامه النور الذى نسلكه «سِرَاجٌ لِرِجْلِى كَلَامُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِى» مَزُ911:501. فكلمته تُحيينا وتُغيّرنا، ووصاياه تُعلمنا وتُحذرنا، وتعاليمه تقودنا وترشدنا.
وكيف أثر بمعجزاته العظيمة؟ فكيف شفى الأعمى والمجنون والأبرص وصاحب اليد اليابسة، وكيف أقام الموتى فتغيّرت حياتهم ومواكبهم الجنائزية إلى موكب أفراح وتهاليل؛ فعاشوا بمعجزته فيهم حياةً معجزيةً. وكيف أثّر حتى فى موته؟ إذ شهد قائد المائة الرومانى، وهو ضمن الواقفين عند صليبه، والذين معه، بالقول حقا كان هذا ابن الله «مت 72: 45» وتغيرت حياتهم، وأما بقيامته من القبر الذى صار فارغًا؛ فقد صارت لنا ثقة القيامة من الموت للحياة الأبدية.
بميلاد المسيح اهتزت ممالك الأرض والسماء، فملائكة السماء سمعت النداء: اذهبوا وترنموا وسبحوا واهتفوا واملأوا الأرض والسماء بأناشيد وغناء، فقد ولد طفل المذود، ولد يسوع فبشّروا الجموع «ٱلْمَجْدُ لِلهِ فِى ٱلْأَعَالِى، وَعَلَى ٱلْأَرْضِ ٱلسَّلَامُ، وَبِالنَّاسِ ٱلْمَسَرَّةُ» لو2:41. وأما الشياطين فاهتزت خوفًا ورعبًا؛ فقد وُلد المُخلّص الذى سيخلص البشر الذين ليس لهم حول ولا قوّة «أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِى مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱلرَّبُّ» لو2:11. وُلد الذى قيل عنه نسل المرأة «المسيح» يسحق رأس الحية «إبليس»، لذلك صرخوا قائلين: آه ما لنا ولك يا يسوع الناصرى «مر4:1» أتيت لتهلكنا، أنا اعرفك، من أنت: قدوس الله.
فاهتزت مملكة الشيطان إِذْ «جَرَّدَ ٱلرِّيَاسَاتِ وَٱلسَّلَاطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَارًا، ظَافِرًا بِهِمْ فِيهِ» كو 215. وحقيقة الأمر، ولد المسيح ليس ليجردهم من رتبهم ومكانتهم فقط؛ لكن ليبيدهم فى نهاية المطاف، إذ يقول «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلْأَوْلَادُ فِى ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَى يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ ذَاكَ ٱلَّذِى لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَىْ إِبْلِيسَ». فكيف لا تهتز مملكته بمولد المسيح القدوس؟
وحتى مملكة العالم الظالمة وقتها، فاهتز «هيرودس» الملك الرومانى.. يقول الكتاب المقدس: فلما سمع هيرودس الملك اضطرب، لماذا اضطرب قلبه؟ لقد كان ظالمًا خائفًا على مُلكه، مع أن يسوع لم يكن يريد المُلك الأرضى مطلقًا، فحين سُئل أأنت ملك اليهود؟ كانت الإجابة «مَمْلَكَتِى لَيْسَتْ مِنْ هَذَا ٱلْعَالَمِ»، فهو جاء ليملك فعلا، وهو ملك عظيم، بل أعظم الملوك جميعا؛ لكنه جاء ليملك لا على الأرض والأشياء؛ لكن على القلوب والنفوس، لينقذها ويُحررها من قبضة إبليس، ذاك الذى كان قتّالاً للناس من البدء.
وأخيرًا، تحققت فى ميلاده النبوات. قيل فيه يُولد من عذراء، ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل، كيف يكون هذا الأمر الغريب والعجيب، وتأتى الإجابة «اش14:7» وأما ولادة يسوع فكانت هكذا، كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس.
وقيل فيه يُدعى من مصر، فى سفر هوشع «ومن مصر دعوت ابنى». ولد المسيح وثار هيرودس وأمر بقتل كل الأطفال، وظهر ملاك الرب برسالة ليوسف: قم خذ الصبى وأمه واهرب إلى مصر، لكى يتم القول من مصر دعوت ابنى، فجاء إلى مصرنا الغالية وزيّنها بجماله وبهائه، وباركها بقدمه التى وطأتها، وباركها الكتاب المقدس بالقول «مبارك شعبى مصر»، وصلاتى أن تبقى مُباركة بوجوده فى وسطها دائمًا.
وقيل: تكون الرياسة على كتفه. وأيضا يأتى شيلون، وله يكون خضوع شعوب، أى من له الأمر والسلطان. و«هُوَذَا بِٱلْعَدْلِ يَمْلِكُ مَلِكٌ». وفى دخوله أورشليم هتفت الجماهير قائلة: أوصانا لابن داوود مبارك الآتى باسم الرب أوصانا فى الأعالى.
لقد عاش على الأرض ملكًا على القلوب، ورئيسا على الأرواح والنفوس التى قبلته، وسيّدًا له سلطان على المرض وعلى الموت وعلى الأرواح الشيطانية وعلى الطبيعة، وحين ذهب للموت بنفسه قال: «لِى سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِى سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا»، فكان سلطانه فى يده. وأخيرا وُلد المسيح فتحقَّق فيه أعظم ما نحتاج إليه، ألا وهو الحياة، فجاء ليهب حياةً لعالم مائت «لِأَنَّ أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِى مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ ٱللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا»، فالخطيّة ملأت العالم بالموت، وأما المسيح فملأ العالم بالحياة، فالذى فيه كانت الحياة، والذى قال بفمه الطاهر: «وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ»، أعطانا أن نعيش أفضل وأسمى، وأعظم حياة هنا على الأرض، ومن ثمّ هناك فى السماء، وهو بنفسه فى ميلاده يدعوك للحياة؛ فاستمتع ببركات حياته.. تمنياتى بعيد سعيد وميلاد مجيد.