جلس المعلم درويش البحر مع زملائه فى قهوة المعلم ربعة بكوم الدكة بالإسكندرية، كان مضطربا حتى اقتربت منه فتاة صغيرة، ومالت على أذنه لتسر إليه بكلمات، وما كاد يسمعها حتى تهلل فرحا، وصاح: «هنئونى، باركوا لى، رزقنى الله فى هذه الساعة بمولود ذكر، وأقبل كل من فى المقهى يهنئون المعلم درويش البحر، واقترح المعلم ربعة أن يسمى المولود مصطفى، لكن المعلم درويش رد: «سأسميه سيد، لأنى أرجوه فى حياته أن يكون سيدا»، وبارك الحاضرون اسم سيد درويش يوم 17 مارس، مثل هذا اليوم، 1892، حسبما يذكر محمد محمود دوارة فى كتابه «سيد درويش».
كانت الأسرة تتكون من الوالد والأم الحاجة ملوك، والأولاد، فريدة وسيد وستوتة وزينب، ويعيش الجميع على دخل الأب من حانوته وكان يفى بالكفاية، وفقا للدكتور محمود أحمد الحفنى فى كتابه «سيد درويش»، مضيفا: إن المعلم درويش البحر ألحق طفله فى الخامسة من عمره بكتاب حسن حلاوة، وفى هذا الكتاب يواتيه الحظ بمدرس يدعى سامى أفندى، له شغف بحفظ الأناشيد، وتعود أن يلقنها لتلاميذه الصغار، ولمس سامى أفندى فى الطفل سيد استعدادا طيبا لتلقى هذا النوع من الأغانى والألحان.
يضيف «الحفنى»، أن سيد درويش تلقى أول صدمات حياته وهو فى السابعة من عمره بوفاة والده فى عام 1899، وتولت الأم رعايته، ثم غادر كتاب حسن حلاوة إلى مدرسة شمس المدارس بحى رأس التين، وفيها تسعده المصادفة مرة ثانية بلقاء سامى أفندى، كما يحالفه التوفيق حين يجد ضابط هذه المدرسة، نجيب أفندى فهمى، مشغوفا كذلك بتلقين تلاميذه ألوانا من الأناشيد كانت مألوفة، فيمضى الطفل قدما إلى مواصلة ما كان يتلقاه من هذه الأناشيد والمقطوعات الغنائية، التى كانت تعرف وقتئذ باسم «السلامات»، وهى مقطوعات لتحية الحكام والدعاء لهم، ركيكة الأسلوب، ضعيفة المعنى، وتوضع فى قالب من ألحان الموشحات.
يذكر «الحفنى»، أن الطفل سيد تدرب على عدد كبير من ألحان عصره فوعتها أذناه، واستجاب حسه لموسيقاها، ووجد فيها صدى لهواية كانت تجيش بها نفسه، وفى عام 1905 بلغ الثالثة عشر من عمره، والتحق بالفرقة الأولى بالمعهد الدينى فى مسجد أبى العباس، وتابع تجويد القرآن، وتزيا بزى قراءة عصره المعممين ثم انتقل إلى الفرقة الثانية بالمعهد بمسجد الشوربجى، الذى ظل يؤذن فيه طوال العام الدراسى، لكن تيار الفن يجرفه فيصرف الفتى بدافع الموهبة المتلهفة عن الدراسة، وراح يغذى تلك الرغبة بالإنشاد فى الموالد وحفلات وأفراح وندوات كانت بدايتها فى كوم الدكة، ولم يكن يصادف رضا من والدته، وأدى عدم التفرغ للدراسة إلى فصله نهائيا من المعهد فى نهاية عامه الدراسى الثانى.
يذكر «دوارة» أن الطفل خلع عمامته وخرج يبحث عن عمل، واضطر إلى امتهان أعمال حقيرة وضيعة فى تلك الفترة، فعمل فى بيع الأثاث القديم مع قريب له ثم مساعدا لبائع دقيق ثم عمل مناولا لأحد المبيضين يناوله المونة وأدوات الطلاء فى أثناء العمل، الذى كان ينفث فيه عن حزنه وألمه بالغناء، واكتشف معلمه المبيض أن غناءه أحسن من عمله، واكتشف أن باقى العمال يقبلون على العمل فى حماس ورغبة إذا ما غناهم، فأمره بأن يكف عن العمل ويكتفى بالغناء، وسيعطيه أجره كاملا، ففرح «سيد» وجلس ليغنى للعمال ويشجعهم على العمل.
يذكر «الحفنى»، أنه فى هذه الأثناء تتاح لسيد درويش فرصة حيث يجلس الممثل أمين عطا لله فى مقهى مجاور لأعمال البناء الذى يعمل فيه، فيصغى إلى أغانيه بأسلوبه وطريقة أدائه، وسرعان ما يقرر مع أخيه سليم عطالله مدير فرقة التمثيل والغناء ضم هذا الشاب إلى الفرقة ليقوم فيها بالتمثيل والغناء، وقبل «سيد» العرض، ورحل مع الفرقة إلى الشام فى مطلع عام 1909، ورزق فى أثناء طريقه فى البحر بابنه محمد البحر.
يؤكد «الحفنى»، أن هذه الرحلة فشلت ولم تستغرق غير عشرة شهور، اضطر بعدها للعودة إلى الإسكندرية، بعد أن التمس من أسرته إمداده بنفقات عودته، وبالرغم من هذا الفشل فإن الرحلة أفادته فى سماعه لموسيقى تلك الأقطار العربية، واتصاله بأمثال الشيخ عثمان الموصلى، الذى أخذ عنه وعن غيره الكثير من أصول هذا الفن.
يذكر «الحفنى» أنه فى عام 1912 يبدأ ميلاده الفنى الجديد برحلته الثانية إلى الشام، وفى عام 1917 ينتقل إلى القاهرة وتبدأ إقامته بها حتى نهاية حياته، وخلالها يبدأ مجده الفنى وأهم ما فيه أنه «أدرك أن الأغانى ليست ترفا وطربا فحسب وإنما هى تعبير عن مشاعر الشعب وانفعالاته، فكان أول من وضع ألحان الطوائف كالسقايين والشيالين.. إلخ»، وفقا للموسيقار محمد عبدالوهاب فى كتابه «رحلة غنائية يرويها محمد عبدالوهاب» لمحمد أحمد عيسى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة