ارتباك أوروبي وصلت ذروته في بروكسل وباريس، والسبب صعود جديد اليمين المتطرف عبر الصناديق، ما يعكس ضجراً لا ينكره منصف من سياسات الحكومات الأوروبية مجتمعة ، وميلاً نحو الانغلاق، ورفضاً متزايداً للآخر، وانهيارا متتاليا لمفاهيم الشراكة.
قبل قرابة أسبوعين، أسفرت الانتخابات الأوروبية عن فوز جديد لأحزاب اليمين المتطرف، ما شكل بحسب عنوان صحيفة "20 مينوتوس" الأسبانية في ذلك الحين "ضربة للتيار السياسي السائد"، وسط حالة من الجدل للوقوف علي أسباب خسارة أحزاب الوسط والتي تأتي لأسباب من ضمنها الفشل الغربي في مواجهة روسيا خلال الحرب الأوكرانية الممتدة، والتي شهدت منذ اندلاعها إقدام واشنطن والدول الأوروبية علي فرض حزم متتالية من العقوبات ، كان لها آثراً عكسياً علي اقتصاديات الغرب نفسه.
ويعود الارتباك الذي سكن دوائر السلطة في العواصم الأوروبية خلال الأيام القليلة الماضية إلى قدرات اليمين المتطرف فى أوروبا التي باتت قائمة لمدة 5 سنوات مقبلة علي رسم سياسات وتشريعات الاتحاد فيما يتعلق بملفات من بينها الهجرة والأمن والمناخ ، وربما عرقلة عملية صنع القرار علي مستوي القارة.
ولم تقتصر مخاوف صعود اليمين علي دوائر صنع القرار ، وإنما امتدت لشرائح الأوروبيين ذوو الأصول العربية والأفريقية ، وهو ما رصدته وسائل إعلام أوروبية عدة خلال اليومين الماضيين في محاولة لاستمالة الرأي العام لوقف هذا الصعود اليميني، وبالأخص في فرنسا التي قررت تحدى تلك النتائج والاستعداد لمعركة انتخابية مبكرة.
ماكرون يتحدى.. والاقتصاد يدفع الثمن
صدمة الصناديق قابلتها باريس بـ الدعوة إلى انتخابات مبكرة ، إلا أن التداعيات ربما فاقت حسابات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث تراجعت الأسهم الفرنسية واليورو هذا الأسبوع، أمام تقدم حزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان المشكك في الاتحاد الأوروبي في استطلاعات الرأي والتحالف الجديد الذي شكلته الأحزاب اليسارية في فرنسا.
ونافس ماكرون زعيمة اليمين المتطرف الفرنسية مارين لوبان في اخر عمليتين انتخابيتين رئاسيتين في فرنسا ، بعد دخول جولتي إعادة في كلا المواجهتين ، ففي 2017 ، فاز إيمانويل ماكرون بواقع 66% مقابل 33.9%، فيما فاز بفارق أقل في انتخابات 2022 بواقع 58.5% مقابل 41.5% حصدتهم لوبان.
وبحسب تقرير نشرته وكالة رويترز، تلقت الأسهم الفرنسية ضربة قوية بعد أيام من قرارات ماكرون، حيث شهد مؤشر "سي إيه سي 40" للأسهم القيادية انخفاضا بنسبة 6% هذا الأسبوع، مسجلا أكبر انخفاض أسبوعي له منذ أكثر من عامين.
وقال توم أوهارا، مدير المحفظة في شركة يانوس هندرسون إنفستورز للوكالة: "نحن في وضع أطلق النار أولا، ثم اطرح الأسئلة لاحقا فيما يتعلق بفرنسا". وانخفضت أسهم الشركات المتوسطة، الأكثر تعرضا للاقتصاد الوطني، بنسبة 9%، وهو أكبر انخفاض منذ مارس 2020 خلال فترة الاضطرابات الاقتصادية التي شهدتها موجة كورونا.
تحرك ماكرون كان محور تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية ، التي وصفت الدعوة للانتخابات المبكرة بمثابة "مقامرة كبري ربما تمهد طريق اليمين المتطرف نحو السلطة"، موضحة أن الرئيس الفرنسي حاول استغلال عنصر المفاجأة لحرمان خصومه من الوقت الكافي لتشكيل تحالفات قوية، إلا أن هذه الرهانات بدأت بالتلاشي بسرعة مع نجاح أحزاب يسارية في تشكيل ائتلاف موحد لمنافسة حزبه وحزب لوبان، ذلك بخلاف ما يعانيه حزب ماكرون نفسه من فوضي وارتباك.
بحسب تقرير لمجلة بوليتيكو، يري خبراء أن صعود اليمين المتطرف في أوروبا له العديد من الأسباب، بمقدمتها الهجرة وارتفاع تكاليف المعيشة ، فأمام موجات التضخم المتزايدة والتي طالت كافة اقتصاديات التكتل الأوروبي، استقبلت القارة العجوز ما يزيد علي 2 مليون لاجئ في عام 2015 في وقت احتدمت فيه اضطرابات الشرق الأوسط والقارة السمراء.
ألمانيا.. محاولات مرتبكة لامتصاص الصدمات
وفى برلين لم يقل وقع الصدمات ، إلا أن ردود الفعل كانت أقل حدة رغم ارتباكها ، وهو ما كان محور تقرير لمجلة بولتيكو الأمريكية التي قالت إن الأداء المرتبك للائتلاف الحاكم بقيادة المستشار الألماني أولاف شولتز، ربما لن يؤدي إلى اجراء انتخابات مبكرة ، لكن نتائج الانتخابات الأوروبية كانت بمثابة "حكم إعدام" ، دون استبعاد الاتجاه نحو تصويت بسحب الثقة.
وحقق حزب البديل من أجل ألمانيا (يمين متشدد) أفضل أداء انتخابي منذ تأسيسه واستطاع التغلب علي الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي يتزعمه المستشار الألماني أولاف شولتز ، واسط ارتباك في البلد الأكبر صناعياً داخل التكتل الأوروبي.
وقبل يومين، دعا شولتز قيادات حزبه لـ"التمسك" مؤكداً أن بإمكانه الترشح لولاية ثانية في 2025 رغم الخسارة غير المسبوقة التي مني بها الحزب الديمقراطي الاجتماعي.
وقال المستشار الألماني علي هامش قمة مجموعة السبع في إيطاليا : "أعتقد أن انتقادات المواطنين مبررة.. فنحن نتكلم كثيراً"، مضيفاً: "علينا أن نضبط أنفسنا وأن نرص صفوفنا كي نتمكن من التوصل إلى اتفاقات".
وأضاف شولتز في محاولة لامتصاص غضب المواطنين : "من حق المواطنات والمواطنين أن يطالبوا بتغيير الأمور".
وبحسب استطلاعات الرأي، اختار 11% من الناخبين الشباب ما بين عمر 24 إلى 30 عاماً حزب البديل من أجل ألمانيا، ما يعكس ميل الناخبين الشباب للأفكار المتشددة التي تمس في جوهرها فلسفة التكتل الأوروبي.
الارتباك الألماني دعا العديد من الخبراء وبالأخص الاقتصاديين للبحث عن حلول لوقف موجة صعود اليمين، وهو ما عكسته تصريحات للمديرة التنفيذية لاتحاد الصناعات الألمانية تانيا جونر، والتي دعت خلالها إلى إجراء إصلاحات في بروكسل استجابة لنتائج الانتخابات الأوروبية، معتبرة أن القارة تحتاج الآن إلى خطة نمو سريعة، مشددة على أن القدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي يجب أن تكون على رأس الأولويات في الفترة التشريعية المقبلة.
فيما قال رئيس المعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية مارسيل فراتسشر إن برلين ستكون واحدة من أكبر الخاسرين في أوروبا، وربما تخسر موقعها التجاري أمام المنافسة الشرسة مع الولايات المتحدة والصين .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة