في ورشة ينبعث من جدرانها رائحة التاريخ بعبقها القديم، تتجلى مهارة صانع ماهر لا يزال يتمسك بحرفة الأجداد، يتوسط قطعًا خشبية ذات أنماط هندسية معقدة، صاغها بيده بحرفية عالية في سلسلة متكررة من الأشكال الهندسية على طريقة العاشق والمعشوق، موقظًا ذكرى قديمة، تحمل تراثًا وتاريخًا عريقًا، كانت فيها منازل المحروسة تنبض بزخارف خشبية فريدة من الأرابيسك.
حرص خالد إبراهيم محمود الشهير بـ"سكر"، صاحب الـ59 عامًا، على التمسك بالموروث الثقافي والفني، الخاص بفن الأرابيسك، الذي اكتسبه من عمه منذ أن كان في الـ11 من عمره، فيجلس في ورشته بإحدى حواري منطقة الدرب الأحمر بمحافظة القاهرة، متوسطًا ابنه وحفيده، يتشاركون المهام معًا فى تركيز تام حتى يشكلون الخشب ويصنعون قطعًا فنية فريدة، يغلب عليها جماليات الزخرفة وتكراراتها وبراعة خطاطيها.
خالد إبراهيم صانع خشب الأرابيسك
تصميمات الأرابيسك
تعلم أقدم خراط عربي في الدرب الأحمر فن الأرابيسك منذ نعومة أظافره على يد شيوخ الحرفة، وعلمها لأبنائه حتى يحافظ عليها من الاندثار، فيقول: " كان عمي من عمالقة مهنة النجارة، هو من أحببني في فن الأرابيسك وعلمني خطوات التصنيع"، مضيفًا: "مع مرور الوقت أتقنت العمل، وعلى مدار 45 عامًا لم أبتعد عن الصنعة، وعلمت أبنائي ومؤخرًا حفيدي حتى أحافظ على تاريخ الأسرة في المهنة".
تعد مهنة خراطة خشب الأرابيسك من الفنون القديمة التي يعود تاريخها لمئات السنين، حيث كانت منتجاتها الخشبية قديمًا واجهة تزين المنازل والقصور والمساجد والكنائس وتجمل الشبابيك والأبواب والأسقف والأثاث: "الأرابيسك تراث أصيل له طابعه الخاص، في السابق كانت قطع الأرابيسك بتصاميمها وزخارفها الإسلامية تزين أغلب المنازل والمساجد ومنتجات الأثاث"، مضيفًا: "كثيرٌ من الصناع لا يزالون يعملون بالمهنة، لكنهم من كبار السن، فلا يوجد شباب يعملون بالحرفة في الوقت الحالي".
أقدم خراط عربى بالدرب الأحمر
ورشة خالد إبراهيم
يعد "الأرابيسك" صناعة وفن معًا، فيعتمد على مهارة وذوق الصانع الذي يشكل بلمسة جمالية ومهارة ودقة عالية قطعًا فنية ذات أشكال هندسية مبتكرة تجمع بين البساطة والرقي، فيقول خالد: "فن خراطة خشب الأرابيسك يحتاج إلى فن ومهارة وذوق ودقة عالية وإجادة الصانع للرسم الهندسي، إذ يمر التصنيع بعدة مراحلة حتى يصل خشب الأرابيسك لشكله النهائي، وتلك المراحل تبدأ بتحديد الرسومات المطلوبة، والتي تتنوع تصميماتها وزخارفها الهندسية، واختيار نوع الخشب المستخدم وأبرزه الخشب الزان والأبنوس، ومن ثم تحديد الحجم المناسب للقطعة بحسب المكان والغرض المستخدمه به، لتأتي بعدها مراحل الخراطة والحفر والتشكيل والتخريم والصنفرة وأخيرًا الطلاء، مضيفًا: "للخرط أنواع، منه الميموني والكنيسي والإسلامي باختلاف تصميماته وأحجامه وأبعاده".
سادت حرفة وصناعة تصاميم الأرابيسك على مر عصور طويلة، وتم توارث قواعدها وفنياتها جيل بعد جيل، وبالرغم من تطور أنماط التصميم والديكور لا يزال صامدًا ومحتفظًا بمكانته ويحرص كثيرون على اقتناءه: "شغل الخرط يختلف من صانع لآخر، فلكل صانع طريقته وأسلوبه في التصنيع، فالبعض اعتاد على الخرط بأكثر من أداة "المنقار"، وأنا على سبيل المثال اعتدت العمل بأداة واحدة، وكل دفعتي كذلك، نفس المدرسة في التصنيع، وذلك من النوادر"، مضيفًا: "فن الأرابيسك لا يزال يدخل في العديد من الصناعات، منها الأثاث بمختلف أنواعه، تجميل المنازل، صناعة البراويز، الأنتريهات، فتصميماته ثرية لا غنى عنها".
خراطة خشب الأرابيسك
ورشة صناعة خشب الأرابيسك
يعشق خالد مهنته ويقدرها ويسعى للحفاظ عليها من خطر الاندثار في ظل عزوف كثيرين عن العمل بها: "المهنة كانت تلقى في الماضي رواجًا أكثر من اليوم، فلم تعد كما سبق، خاصة وأن كثيرٌ من الشباب ليس لديهم الرغبة في تعلمها والعمل بها ويتجهون إلى مهن يسيرة تدر لهم ربحًا أكبر، فالمهنة تحتاج إلى اهتمام وتنمية للحفاظ عليها من خطر الانقراض، وعلى الرغم من ذلك إلا أنها لن تندثر، مهما تعاقب عليها من أنماط تصميم حديثة، خاصة وأنها تعتمد على الفن اليدوي والإبداع، ويظهر جمال منتجاتها عن طريق الأشغال اليدوية التي تعتمد على مهارة الصانع الذهنية واليدوية، مؤكدًا: "عمر المهنة دي ما هتنقرض".
خالد إبراهيم وحفيده
