لو سئلت عما يمكننى وصفه بـ«الوقاحة التاريخية» لقلت بلا تردد: إنها قول بعض الجهال بأن حدود مصر تراب، وأن تلك الحدود قد صنعها الاستعمار، حين قامت الدول الاستعمارية فى عصر الاستعمار البائد بتقسيم ممتلكاتها فى المنطقة.. ولعمرى ماذا تكون جرأة الجهل إلا ذلك القول الذى ينفيه التاريخ ويستهجنه؟!
يعتبر البعض أن القول بأن مصر هى أقدم دولة على وجه الأرض هو من قبيل «النعرة الوطنية»، ولكن التمييز بين تلك النعرة المزعومة والتاريخ الواقعى أمر يسير، فهلم إذن نرى ماذا يقول التاريخ..
نحو العام 3200 ق.م. أتم الملك المصرى القديم مينا كفاح أسلافه لتوحيد قطرى وادى النيل - الشمالى والجنوبى - فأصبحت مصر بحق أول دولة موحدة مستقرة على حدودها الأصلية، فالحضارات القديمة المعاصرة للتاريخ الطويل لحضارة المصريين القدماء - كالحضارات السومرية والأكدية والبابلية فى العراق والفينيقية فى الشام والإغريقية فى اليونان- قامت على نظام «المدينة الدولة»، حيث كل مدينة هى دولة قائمة بذاتها، ومن حين لآخر تزداد قوة إحدى تلك المدن فتسيطر على ما حولها حتى تضعف وتضمحل، فترث مدينة أخرى سطوتها ونفوذها.. وهكذا، فتحددت إذن منذ عصر المملكة المصرية القديمة حدود مصر، التى تتكون من وادى النيل ودلتاه والصحراء الشرقية وقرينتها الغربية، وشبه جزيرة سيناء- الجناح الآسيوى - شرقا والنوبة السفلى «واوات» جنوبا «تمييزا لها عن النوبة العليا النعروفة بكوش»
الدارس لمادة النظم السياسية فى كليات الحقوق وتخصصات العلوم السياسية يتعلم من البداية أن للدولة ثلاثة عناصر هى «الشعب، والإقليم، والسلطة الحاكمة».. من البداية إذن عرفت مصر العناصر الثلاثة المكونة لدولتها، فالإقليم قد ذكرناه، والشعب مستقر على أرض الإقليم، والسلطة الحاكمة قائمة من وزراء وأمراء وقادة وموظفين للجهاز الإدارى، يرأسهم الفرعون، وعرفت أرض مصر بـ«كمت» أى الأرض السوداء نسبة للون طمى واديها، أو «دشر كيما» بمعنى «الأحمر والأسود» - لونا رمال الصحراء وطمى النيل - وعرفها اليونانيون بـ «كبتوس»، وهو تحريف لعبارة «حت كا بتاح» أى حائط بتاح نسبة لمعبد الإله بتاح بالعاصمة القديمة متف، وتحولت كپتوس مع الزمن إلى Egypt وÉgypte وEgito وÄgypten فى اللغات الأوروبية، للدلالة على نفس البلد الواضحة حدوده التاريخية.
شهدت الحضارة المصرية القديمة تمددا لحدود الحكم المصرى، بلغ ذروته فى عهود الملوك المحاربين منذ عهد الملك أحمس، الذى طارد الهكسوس خارج حدود مصر، فحاصرهم عند قلعة شاروهين جنوبى غزة، وطهر منهم الساحل الفينيقى، وتولى خلفاؤه وعلى رأسهم تحتمس الأول وتحتمس الثالث وأمنحتب الثانى مد حدود النفوذ المصرى حتى بلغت جنوب شرقى الأناضول فى آسيا، وجنوبا عند شلالات النيل فيما يعرف بـ«الإمبراطورية المصرية»، وإن كانت هذه المرحلة الإمبراطورية من تاريخ مصر القديم قد زالت بعد أواخر الملوك المحاربين مرنبتاح الأول ورمسيس الثالث، إلا أن حدود مصر الأساسية لم تتغير.
وفى العصر اليونانى - الهيللينى، وبعد تقاسم أبرز قادة الإسكندر الأكبر المقدونى مملكته بعد وفاته، وقيام الجولة البطلمية فى مصر، بقيت مصر على حدود إقليمها، وإن كانت فى بعض عهود البطالمة العظام كبطليموس الأول سوتير وابنه بطليموس الثانى فيلادلفوس قد مدت مصر نفوذها لجزر شرقى البحر المتوسط حتى الجزر اليونانية، وراحت تنافس السلوقيين اليونانيين الذين حكموا آسيا الصغرى فى السيطرة على الشام.
وحتى فى عصر الاحتلال الرومانى كان الإقليم المصرى مميزا بحدوده ونظامه الحاكم، فـ«الپرفكتوس» - الحاكم الرومانى لمصر - كان يعين من قبل الإمبراطور الرومانى باعتبار أن مصر تابعة للإمبراطور مباشرة، وكذلك كان الوضع خلال احتلالها من قبل الرومان الشرقيين المعروفين بالبيزنطيين.
وفى بداية عصر الحكم العربى، تجلت معرفة الجميع بحدود مصر، عندما توجه القائد عمرو بن العاص لفتحها، فأرسل الخليفة عمر بن الخطاب رسولا وراءه يأمره إن كان لم يدخل أرض مصر بالرجوع، وكان الخليفة يخشى هلاك جنده فى مواجهة مع الروم فى أرض بعيدة، فاحتال ابن العاص وتهرب من حامل الرسالة حتى وصل إلى العريش، وفتح الرسالة وسأل من معه «هل نحن فى أرض مصر؟» فلما أجابوه بالإيجاب مضى قدما فى فتحها، فهذا يثبت أن حدود مصر كانت معروفة وواضحة، وأن بينما كانت غزة المعروفة للعرب بـ«غزة هاشم»، نظرا لأن هاشم بن عبدمناف جد بنى هاشم قد مات ودفن فيها، تقع فى أرض فلسطين، فإن العريش - المسماة بذلك لكثرة نخيلها - تقع فى أرض مصر.
وفى العصر العربى كذلك عرفت لمصر خصوصيتها، فقد طلب أول ولاتها عمرو بن العاص من الخليفة عمر بن الخطاب أن يكون لمصر نظامها الإدارى الخاص، وكان ابن العاص يقول مفاخرا إن ولاية مصر تعادل مكانة الخلافة!
وخلال عملية تقسيم الخلفاء لنظام «الأجناد»، وهو تقسيم إدارى عسكرى يعادله حاليا تقسيم القيادات العسكرية جغرافيا إلى مركزية وشمالية وجنوبية وشرقية وغربية، كانت منطقة جند مصر مميزة بذات حدودها التاريخية المنفصلة عن باقى الأجناد كجند فلسطين وجند الأردن وغيرها.
وجاء إلى مصر الوالى من قبل العباسيين أحمد بن طولون، الذى نجح سنة 868م فى إقامة أول دولة مصرية مستقلة بعد دخول العرب مصر، وقد توسعت دولته فبلغ نفوذه الشام حتى الثغور الشامية- أى أول ما يواجه الروم من مدن الدولة العباسية- وإقليم برقة الليبى غربا، واستمرت دولته حتى العام 905م عندما أسقطها العباسيون، وبعد سنوات وتحديدا فى العام 935م تكررت التجربة على أيدى الأمير محمد بن طغج الأخشيد الذى أقام دولة مصرية أخشيدية مستقلة استمرت حتى العام 968م الذى نجح فيه الفاطميون الآتون من شمالى أفريقيا فى دخول مصر ونقل مركز دولتهم لها، لتستقل مصر تماما وبشكل رسمى عن الدولة العباسية وتصبح عاصمتها القاهرة - التى أسسها القائد الفاطمى جوهر الصقلى - عاصمة ودارا للخلافة الفاطمية، ومنطلقا لتمدد دولة الفاطميين باتجاه الشام والاصطدام بالعباسيين فى العراق.
وعند تعرض المشرق العربى الإسلامى لمحنة الحملات الفرنجية المعروفة بـ«الصليببة»، نرى حدود مصر واضحة، فالفرنجة الذين أقاموا لأنفسهم مملكة بيت المقدس فى القدس الشريف وما حولها، وتمددوا إلى عسقلان ويافا وغيرهما، عرفوا الفرق بين مناطق استيطانهم فى فلسطين وأراضى مصر، وبدا هذا واضحا فى نصيحة الملك الإنجليزى ريتشارد قلب الأسد للفرنجة بغزو مصر لو أرادوا استرداد بيت المقدس بعد تحرير صلاح الدين الأيوبى لها، وقبل ذلك فى محاولات الملك الصليبى أمالريك الأول «المعروف بعمورى» غزو مصر عن طريق شمالى سيناء والفرما «شمالى خليج السويس»، وفى مفاوضات جلائه كانت مغادرته سيناء تعنى خروجه من مصر.
هكذا نرى أن ثمة حالة من التواتر فى وضع مصر، سواء من ناحية الإقليم أو خصوصية السلطة الحاكمة له، منذ عصر الحضارة المصرية القديمة مرورا بالعصر اليونانى الرومانى وحتى العصر الفاطمى.. فماذا عن العصور اللاحقة؟ وماذا عن عنصر الشعب المصرى؟
لهذا الحديث بقية، ولتلك الأسئلة إجابات فى المقال المقبل إن شاء الله.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة