لا يجيدُ الفلسطينيِّون توزيعَ الأدوار؛ أمَّا الصهاينةُ فإنهم مفتونون بلُعبة الكراسى الموسيقية، ويُجيدون التنويعَ عليها من أوَّل تجربتهم السياسية فى المنطقة قبل ثمانية عقود. رقصوا مع المملكة المُتَّحدة قبل أن يناموا فى سرير واشنطن، ويرعون مع الديمقراطيين بينما يتأهَّبون للافتراس مع الجمهوريين. وفى مشهد الحرب الدائرة بعد طوفان الأقصى، يتبادلون مواقع الصقور والحمائم، وفى الجوهر لا فارقَ لديهم بين الساسة والجنرالات، ولا بين يمينٍ ويسار، أو مُتطرِّفين ومُعتدلين. الفكرةُ نفسُها لها طابعٌ فاشىٌّ ظاهر، وبقاؤها يتأسَّسُ على إلغاء الآخر. وإذا كان نتنياهو أعلاهم صوتًا؛ فالبقيَّةُ أقربُ إلى الكُورَس فى الخلفيَّة، قد يخرجون عن اللحن الأساسىِّ أحيانًا؛ لا لشىءٍ إلَّا خداع الجمهور، والتمهيد لمُطرب الفرقة أن يعود للغناء من طبقةٍ أعلى. ربما لا يُحبّون رئيسَ حكومتهم، وبعضُهم يختلفون معه اختلافًا عميقًا؛ لكنهم جميعًا أبناءُ عقيدةٍ وحشيَّةٍ واحدة، وأقصدُ الصهيونيّة وإن انطبق الوصف على كثيرٍ من أدبيَّات اليهودية، أمَّا التمايُزات التى يُخرجونها للعلن فلها وظيفة مقصودة؛ بحيث يظلُّ البابُ مفتوحًا على باقة من البدائل والخيارات، وتظلُّ الدولةُ الغاصبة قادرةً على الإفلات من جرائمها، وعلى شخصنة الموضوعىِّ، وتعليق المسؤولية الجماعية فى رقبة فردٍ؛ لتبدو كلُّ جولةٍ إباديَّةٍ كأنها تبدأ من نقطة الصفر.
ثلاثةَ عشرَ رئيس حكومة فى تاريخ إسرائيل، لن تتمكَّن من الوقوع على فروقٍ جوهريَّةٍ بينهم. ربما تختلف نبرةُ الخطاب وآليَّةُ تفعيله عمليًّا؛ لكنَّ المُحصِّلة واحدةٌ طوالَ الوقت. تنشبُ الصهيونيَّةُ مخالبها فى الأرض واللحم، وتُجدِّد سرديَّتَها بالتلفيقات والأكاذيب، وأشدُّهم تعقُّلاً فى المُعارضة لا يختلف عن الأكثر توحُّشًا حينما يصعدُ مدارجَ السُّلطة. لم تكن اليساريَّة جولدا مائير أقلَّ جنونًا من الليكودى شارون ووريثه بنيامين نتنياهو، ولا علاقة بين خطابات يائير لابيد ونفتالى بينت اليوم، وما كانا يُمارسانه فى الحُكم، وحتى بينى جانتس الذى لم يُختَبَر عمليًّا فى موقع القرار، لا يبدو مُختلفًا على أهداف إبادة حماس وتكسيح قطاع غزَّة، والحاجة إلى إزاحة حزب الله شمالىّ نهر الليطانى؛ إنما يُفاضِلُ بين المسارات على قاعدة الاهتمام بالأسرى أوَّلاً، ولعلَّه يعتبرُها فرصةً لاختصام رئيس الحكومة؛ بغرض إزاحته والحلول بدلاً منه، وبعدها لن يتأخَّر فى استلال القناع الرسمىِّ للإدارة العُليا فى الدولة العِبريَّة، وهو ما يتكفَّلُ دائمًا بتذويب اختلافات الأيديولوجيا والخلفيَّات المِهنيَّة والثقافية، ويصبُّ المسؤولين الصهاينة فى قالبٍ واحد.
خروجًا من التنظير إلى التطبيق، كان وزير الدفاع يوآف جالانت مُنحازًا منذ اليوم الأوَّل لتوجيه ضربةٍ استباقية نحو جنوب لبنان، وتصدَّى له نتنياهو رافضًا الفكرة، ومُتشدِّدًا فى أولويّة تكثيف الجهود كلِّها فى التركيز على غزَّة. لاحقًا عاد السياسىُّ لطَرح الخيار ورَفَضَه الجنرالُ، وبعدها حدث ما يُشبه الاتِّفاق عليه بينهما دون تصريحٍ واضح. يقول «بيبى» إنهم مُستعدِّون وراغبون فى توسعة حربهم على الجبهة الشمالية، ويزيد «جالانت» بتأكيد الانتهاء من الخطط والتجهيزات المطلوبة للعملية. أمَّا على صعيد الحزب؛ فلم يُحدِثْ فى ميدانه تغيُّراتٍ مِفصليَّةً تُبرِّرُ التحوُّلات الإسرائيلية المُتتابعة، إذ ما يزالُ مُنضبطًا بالسقف المُحدَّد لقواعد الاشتباك بين الطرفين، وتجرَّع كثيرًا من المرارات فى اغتيال قادته الميدانيين، واستهداف تمركُزاته ومنصَّات صواريخه، وتحويل قُرى الجنوب إلى بيئاتٍ خَرِبة ومهجورة، وصولاً للتجرُّؤ على ضاحية بيروت الجنوبية، وحتى فى رَدِّه على اغتيال أرفع قادته العسكريين، فؤاد شكر أو الحاج محسن، كان استعراضيًّا خاليًا من المضمون بأكثر ممَّا خَلَق إزعاجًا حقيقيًّا، والخُلاصةُ أنَّ موجةَ تل أبيب تتوتَّر من داخلها، ولحساباتٍ ذاتيَّة تخصُّ الدولةَ أو القابضين على قرارها، وسواء كان ذلك للضغط النفسىِّ، أو التحضير للتصعيد فعلاً؛ فإنّه ينبعُ أوَّلاً وأخيرًا من العقل الجمعىِّ الذى يملأ جماجم العصابة فى الكابينت وخارجه، وربما وصولاً إلى الشارع نفسه.
غَضبةُ الرأى العام فى إسرائيل لا تُعبِّرُ عن موقفٍ أخلاقىٍّ؛ إلَّا لو اعتبرنا الفرزَ فى المُعاناة بين الرهائن والغزِّيين ممَّا يُمكنُ حسابه على استقامة الضمير. فالباعثُ الوحيد أنهم يطلبون أسراهم أوَّلاً، وربما يُشفقون على جنودهم من الإجهاد الذى يُصيبهم لِطُولِ ما أعملوا بنادقَهم فى صدور النساء والأطفال. أمَّا من زاويةٍ أُخرى؛ فلم تتجاوز الاحتجاجاتُ عتبةَ المليون مُتظاهر فى أىِّ وقتٍ من الأوقات، فى بلدٍ يقتربُ سُكَّانُه من عشرة ملايين، بينما تُشيرُ استطلاعاتُ الرأى فى الأسابيع الأخيرة إلى تحسُّن النظرة الشعبية لليكود وزعيمه، وأنه لو ذهب للانتخابات فى الظروف الراهنة فقد تتقلَّصُ مقاعدُه بواحدٍ أو اثنين أو أكثر قليلاً؛ لكنه سيظلُّ صاحبَ الكُتلة الأكبر فى الكنيست. ما يعنى أنَّ المانع بين الشارع والتسليم الكامل لحاكمِه المجنون، أن تكون الإبادةُ من دون آثارٍ جانبيَّة عليهم، ماديًّا ومعنويًّا، وهذا مِمَّا لا يُغيِّرُ حقيقةَ التنازُع فى البيئة الداخليَّة؛ إنما لا يجعلُه مُثمرًا ولا قابلاً للرهان الجاد. باختصارٍ؛ يُرفَضُ نتنياهو من آخرين يشبهونه تمامًا، لكنهم أضعفُ منه فى التحدِّى واحتمال التكاليف، وصحيحٌ أنَّ الصورة لا تخلو من استثناءاتٍ بالضرورة؛ لكنه الاستثناء الذى يُؤكِّدُ القاعدةَ ويجعلُها صالحةً للإجراء على صِفَة القانون المُجرَّد.
إذا استَعَرنا خُلاصةَ الحادث شمالاً وفى العاصمة العِبريَّة، وأجريناه على الجنوب؛ سنجدُ اللعبةَ ذاتَها مُتحقِّقةً. لقد صمت نتنياهو ثمانيةَ أشهُرٍ منذ اندلاع الحرب، قبل أن يجتاح رفح ويُسيطر على محور فيلادلفيا، وبعدما نجح مع «السنوار» فى إفساد مُقاربة الهُدنة خلال أبريل الماضى، ثمَّ أَرْخَتْ له إيران سواترَ الدُّخان فى «ليلة الصواريخ والمُسيَّرات» فارغة المضمون، حرّكَ جنودَه فى جنوب القطاع، وبدأ يتحدَّثُ عن أولويَّة السيطرة على الخطِّ المُتاخم لحدود القطاع مع مصر، وادَّعى أنه مَعبرُ التسليح والإمدادات اللوجستية لحركة حماس. ومُؤخَّرًا خرج أحدُ قادته الميدانيِّين لينسف مزاعمَه تمامًا، مُؤكِّدًا أنه لا وجودَ لأيَّة أنفاقٍ نَشِطَة باتّجاه سيناء، وكلّ ما عثروا عليه كان مُتهدّمًا ومُغلقًا منذ سنوات. والخلاف نفسُه مُشتعِلٌ فى داخل الحكومة، بين فريقٍ يتشدَّدُ فى البقاء، وآخر لا يرى قيمةً استراتيجيَّةً للتمَوضُعات العسكريَّة جنوبًا؛ بما يخلقُ توتُّرًا مع مصر ويُفسِدُ الصفقةَ المأمولة. والحال أنها «لعبة الكراسى الموسيقية» من جديد؛ إذ يتشدَّدُ رئيسُ الحكومة بغرض إدامة الحرب أو تحصيل مكاسب أكبر فى التسوية، بينما يُوفِّرُ له المُعارضون غطاءً لتغيير مَوقفِه دون حسبانه على التراجع والتفريط؛ فعندما يكونُ المحورُ آمنًا فلا باعثَ للحفاظ عليه، وقد تردَّدت فى الأيَّامِ الأخيرة إشاراتٌ عبر الإعلام العِبرىِّ، تُبشِّر بقبول رئيس الحكومة للإجلاء فى آخر المرحلة الأُولى للاتفاق، أو أوَّل الثانية على الأكثر.
قد تحدُثُ اللعبةُ باتِّفاقٍ ضِمنىٍّ، أو وفقَ سوابق التجربة وما اعتادته الساحةُ السياسية فى إسرائيل. وفى كلِّ الأحوال فإنَّ وقودَها وعاملَ ازدهارها يتّصلان عضويًّا بالشارع؛ إذ يذهبُ جناحٌ من الحكومة ناحيةَ إرضاء اليمين فى وجهه المكشوف، ويشتغلُ الآخرُ على ما يُحبُّ أن يسمعَه الباقون، أو يُغازل مخاوفَهم وحاجتهم لاستعادة الشعور بالأمان. والمعنى؛ أنَّ الجمهور يتولَّون إيصالَ طَيفٍ من الخطاب السياسىِّ إلى مقاعد السلطة، ثمَّ عندما يَتَقَولَبُ بحسب ثوابت الدولة وعقيدتها المُؤسِّسَة، يختلفون فيه ويسعون لإعادة إنتاج تركيبةٍ بديلة. والبديلُ محكومٌ بالتنميط، والاختلافُ موعودٌ بالتكرار، والاستقطابُ يُعيدُ تحرير المُعادلة وضَبط مكوناتها والتبديل بينها؛ وهكذا تستمرُ المُراوغة، وتُجدِّدُ آليَّةُ الانتحال وتوزيع الأدوار حيويَّتَها مع تغيير الوجوه، وإنعاش السرديَّة، وتصوير المسألة كما لو أنها عمليَّةٌ ديمقراطية ديناميكية وقادرةٌ على التصحيح. وهذا مِمَّا لا يجعلُ العملَ مع إسرائيل مُفيدًا على المدى الطويل؛ بل مُجرَّد دوَّامةٍ مُغلقة على استنزاف الوقت والطاقة، وتصفير المسارات كلَّما بدا أنها تضيقُ عليهم أو تقتربُ من خطِّ النهاية. هكذا ذهبَ «رابين» إلى أوسلو ووقَّع الاتفاق مُطمئنًّا إلى خطوط الرجعة؛ وإن لم يحسَبْ حِسبَتَه أن تمُرَّ على جثّته فى الشارع لا فى صناديق الاقتراع، وبالمِثلِ فَكَّ شارون الارتباط مع غزَّة، ليستثمر نتنياهو فى الانقسام الفلسطينىِّ وتوطيد سُلطة حماس، وبقدرِ ما يتوحَّشُ فى حربِه عليها اليومَ، يعرفُ أنه عندما يُضطَرُّ لإيقافها ستكونُ البدائلُ حاضرةً، من داخل اليمين المُتطرِّف أو خارجه، وعلى أسوأ التقديرات سيُخلِى الساحةَ لفاصلٍ عابرٍ من المُعتدلين ظاهريًّا، قبل أن يتقولَبوا بحُكم الضرورة، أو يرثُهم الليكود وما يُشبهه من جديد.
استفادَ الصهاينةُ فى ذلك من العرَّاب الأمريكى. إنها ديمقراطيَّةُ الخيارين دون مُنازعٍ ثالث، ما يجعلُها محكومةً طوالَ الوقت بأقلِّ قدرٍ من التنوُّع وأضيق هامشٍ يُهدِّدُ بالانفلات. وبينما يحرقُ المُحلِّلون وقودًا غزيرًا فى مُواكبة السباق، والبحث عن التمايُزات بين الديمقراطيين والجمهوريين، فإنَّ القرارات المِفصليَّة تُتَّخذُ فى أروقة المُؤسَّسات الصُّلبة ومراكز الفكر وبين الأوليجاركية وجماعات الضغط. لقد كانا، بمعنىً من المعانى، حِزبًا واحدًا فى يومٍ من الأيام، وبزغا من رحم الحزب الجمهورى الديمقراطى فى مواجهة منافسه الفيدرالى، قبل أن يُحسَمَ نزاعُ الأطياف نهائيًّا فى الحرب الأهلية، وإلى الآن ما تزالُ المُشتركات بينهما أكبرَ وأعمقَ من نقاط الاختلاف. أنتجت البيئةُ الأمريكية مفاهيمها الخاصّة، وصارت لليبرالية والماركسية معانٍ مُغايرةٌ من أثر التداخُل والامتزاج. ربما يفترقان فى النظر للمسألة الاجتماعية وآليَّة تمكين السوق، لكنهما يلتقيان على الهيمنة والقوَّة، وتطويع العالم أيَّا كانت الأدوات. ستبدو «الحِمير» أهدأ فى النبرة وأقربَ للسياسة السِّلمِيّة؛ لكن هذا لا يمنعُ هارى ترومان من إلقاء قنبلتين ذَرّيَّتين على اليابان، وسيُعرَفُ عن «الأفيال» غرامُهم بالعُنفِ والحلول الحاسمة، ولن يكون ذلك عائقا أمام «ريجان» فى إبرام صفقةٍ مع إيران قبل فوزه بالانتخابات خلال أزمة السفارة، أو إنجاز تفاهُماتٍ أعمق بعدها. شَنَّ الطرفان حروبًا بالوتيرة نفسها، ولَعِبَا أوراقَ التسوية أيضًا، واليومَ ينحازُ بايدن وخليفتُه المُحتمَلَةُ كامالا هاريس لإبقاء النار فى أوكرانيا، ويُنادى ترامب بتصفية الحرب كغايةٍ عُليا؛ بعيدًا من طبيعة الوسائل. إنها مسألةُ توزيع الأدوار أيضًا، بأكثر من كَونِها قِيَمًا مُنَزّهةً أو ثوابت أيديولوجيّة صارمة.
حاول الديمقراطيِّون أن يلعبوا مع جانتس وجالانت؛ بعدما بدا بنيامين عَصيًّا على التطويع، وتلاعبَ بإدارة بايدن مُستغِلاًّ شيخوخة الرئيس أو صهيونيَّته. والحال أن نتنياهو يُريد تدوير لعبة الكراسى الموسيقية لاستدعاء حليفه المُفضّل ترامب، وكلاهما لن يُجبره على شىءٍ أو يُعيدَ الاعتبارَ للحقوق الفلسطينية المهضومة؛ إنما ينحصرُ الاختلافُ المُتوقَّع فى إيقاع الإبادة والمُساندة. ولعلّه فى هذا يسعى لإجراء اللعبة على واشنطن، هروبًا من استحقاقاتها فى تل أبيب؛ كأنه يستشعرُ أنَّ امتداد الإدارة القائمة سيستجلبُ مَوقفًا مُفارقًا؛ على الأقلِّ من زاوية القصاص ممَّا أحدثه بالبيت الأبيض طيلةَ الشهور الماضية، وبالتبعية فقد تتعزَّزُ الضغوط الأمريكية لناحية الذهاب لانتخاباتٍ مُبكِّرة، أو تقوية مَواقف مُعارضيه بما يُسهِّل مهمَّة استبداله قبل وَقفِ الحرب أو بعده. وفى الوقت الذى يُمارسُ حِيلةَ توزيع الأدوار على مستوياتٍ مُركّبة: مع حُلفائه التوراتيِّين داخل الائتلاف، ومع مُعارضيه السياسيِّين والعسكريين داخل الحكومة وخارجها، ثمَّ مع الأمريكيين أنفسهم فى مناخِ الاستقطاب الحاكمِ للسباق الرئاسى، يغيبُ الفلسطينيِّون عن المشهد تمامًا؛ أكان فى بيئتهم المُشتركة التى تتنازعها الفصائلُ بأهوائها، أو فى الفضاءات المُتقاطعة معها على انتماءاتٍ وولاءاتٍ مُغايرة، وبالتحديد ما يخصُّ اتِّصال «حماس» بأجندة الشيعيَّة المُسلّحة.
كان ياسر عرفات عِالمًا بالقضية وتعقيداتها، وحقيقةِ أنَّ النضالَ فيها طويلٌ وعسيرٌ ولا يُطالُ من زاويةٍ واحدة، ولا بأداةٍ دون الأخرى، أو بتجميع الأوراق كلِّها فى يدٍ وإرخاء الثانية تمامًا. وعلى هذا المعنى؛ ظلَّ الأقدرَ على الجرى فى السياسة وتحت ظلِّ السلاح، وإذا كانت الظروفُ أجبرته على أن يُلقِى بندقيَّتَه جانبًا؛ فإنه ما تخلّى عن الفكرة ولو من مسارٍ آخر. هكذا عُرِفَ عنه أنه يُهادن إسرائيل فى سياستها الأمنية، ويُطلِقُ أيدى الفصائل فى عملها المُقاوم، أو كما قِيلَ كثيرًا يُدخِلُ المطلوبين من بوّابة سجنه العُموميّة ويُطلِقُهم من نافذةٍ خلفيّة؛ بل إنَّ حصارَه فى المُقاطعة تأسَّس على اتِّهامٍ بدعم حماس وغيرها من الأذرُع المُسلّحة، واتّهموه بالمسؤولية عن سفينة الأسلحة المضبوطة على سواحل غزَّة فى مخاض الانتفاضة الثانية. وفى النهاية قُهِرَ الرجلُ فى مقرِّ إقامته، وحُرِم من الموت تحت سماء فلسطين؛ إنما الخسارةُ الأكبر فى رحيله أنَّ القضيةَ الوطنيَّة افتقدت آخرَ العارفين الحقيقيين بها، وآخرَ القادرين على توزيع الأدوار ومُنافسة العدوِّ فى لعبة الكراسى الموسيقية.
الأُصوليَّةُ الحماسيّة كانت طامعةً فى وراثة موقع «أبو عمار»، دون أن تخوض تجربتَه أو تتوفَّرَ على خبرته العميقة؛ ناهيك عن إخلاصه الصافى لفلسطين دون اعتباراتٍ أيديولوجية أو نَفعِيّة. وبأثر الخلافة الهَشّة فى رام الله؛ تمكّنت الحركةُ من الفوز بالانتخابات الأُولى بعد رحيل الأب الشرعىِّ لإعادة القضية إلى حاضنتها، وتمكينها من الوقوف على الأرض التى تطلبُها، بدلاً من التطلُّع إليها من الخارج، أو بخطاطيف الخارج. وما أحدثَه الانقلابُ فى غزّة أنه أعاد الوضع لِمَا قبل أوسلو والاعتراف بشرعيَّة مُنظَّمة التحرير، وألحقَ المسألةَ الفلسطينية على المحاور والأفكار «فوق الوطنية»، مثلما كانت فى زمن أيلول الأسود وحصار بيروت. وإلى اليوم؛ سَدَّد الغزِّيون من دمِهم فاتورةً أثقل مِمَّا عرفوه فى أية مُواجهةٍ سابقة، ويُعاينون أحد جناحى الدولة مكسورًا ومُهدَّدًا بالبَتر، ولم يستفِق الحماسيِّون إلى مأساوية الخيارات القديمة، ولا لحاجتهم الماسّة لمُذاكرة تاريخ عرفات والاستفادة من تُراثه الحركىِّ والسياسى، والبحث عن منفذٍ إلى لعبة الكراسى الموسيقية وتوزيع الأدوار، بحيث لا تُوضَعُ الشرعيَّةُ فى مرمى النار بين المُحتلِّ والمُقاوِم، ولا يقفُ المُقاتل والمُفاوض فى خندقٍ واحد، ويظلُّ بالإمكان إطلاق الرصاصة واستحصالُ مكاسبها فى الدعاية والتفاوض، أو على الأقل إبقاء الباب مُشرَّعًا للتهرُّب من تكاليفها الثقيلة.
المُصالحةُ الوطنية ليست مطلبًا وقتيًّا ينبعُ من الحاجة لاستنقاذ غزّة فحسب، ولا من البحث عن وسيلةٍ لإنهاء المَقتَلَة وافتتاح مسارٍ للتداوى وتجفيف بِركَة الدم. إنها احتياجٌ بقدر ما تفرضه الظروف القاهرة، تدعمه المُقاربات العاقلةُ أيضًا. والواقعُ أنَّ «حماس» تُكرِّرُ أخطاءها المُعتادةَ على صُوَرٍ أفدح؛ إذ وحَّدَتْ السياسىَّ والعسكرىَّ فى شخص السنوار، وتختزلُ القضيَّةَ كلَّها فى رايتها الخضراء، ربما على حساب عَلَم الدولة ذاتها، وهكذا يصيرُ التصويبُ على قائد الحركة تصويبًا على فلسطين بكاملها. بينما تقضى الحصافةُ بتجزىء الأُصول الثمينة، وتنويعِ عناصر القوّة، والابتعاد عن وَضع البيض كلِّه فى سَلّةٍ واحدة. إنها فى حاجةٍ لرأسٍ سياسىٍّ غير العسكرىِّ، وإلى أن تنخرطَ تحت مَظلّة «مُنظَّمة التحرير». والمُنظّمةُ عليها أن تُطوّر نفسها، وتنبعث ثانيةً من تحت الرماد، وأن تكون لديها مُستويات مُتنوّعة للإدارة، من الرئيس لحكومةٍ مُستقلّةٍ وكاملة الصلاحيات، وجهازِ تفاوُضٍ عالى الكفاءة، وآليَّةٍ للتنسيق بين الفصائل عَلنًا وسرًّا، وبما لا يتجاوز الدبلوماسيَّةَ ولا يتعالى على السلاح. لقد تعلَّمت إسرائيلُ من سوابقِ تجاربِها مع العرب، واستفادت من كلِّ مَحطّة فى تحسين ما بعدها، وإن اتَّخذت الحركيّة طابعًا أكثر إجرامًا وتوحُّشًا؛ بينما يدورُ الفلسطينيون فى حلقةٍ مُفرّغة؛ كأنهم منذورون لعقابٍ سِيزيفىٍّ لا ينتهى، أو مُغرمون بتكرار الوقائع ذاتِها، وانتظار مآلاتٍ مُغايرة. وإذا كانت وسائلُ الماضى ما قادت إلَّا لحاضرٍ غائم، وهزائم ثقيلةٍ، وانكساراتٍ تتجاوز طاقةَ الصمود وتُهدِّدُ فُرصَ البقاء؛ فربما تقضى النكبةُ الراهنة بالرجوع إلى الوراء، أو اسشراف المستقبل بمخيالٍ أكثر تحرُّرًا من الأوهام العتيقة.. الإخفاق يُوجِبُ المُراجعة، ولا عيبَ فى النظر للعدوِّ واستلهام أدواته، وإن لم تكن قادرًا على الحسم؛ فليس أقل من التماس سُبل النجاة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة