* كنا نلعب بجوار النخلة على الترعة، التى تم ردمها وأصبحت فيما بعد شارع أحمد عرابى من أكبر شوارع شبرا الخيمة، وفرحين باستعراض قوتنا الصغيرة، فيما يشبه المصارعة، وفاجأنى صاحبى الصغير: لو أبوك جمال عبد الناصر اطلع النخلة دى.
وبالطبع لم أتسلق النخلة، ولكننا قضينا يومها ساعات نتجادل، هل عبد الناصر نفسه أطول من هذه النخلة أم يساويها فى الطول؟
* كان أبى يصر على أن أتناول معه الفطور فى الصباح الباكر، كنت الولد الوحيد وقتها، وبعدها يخرج للعمل ويتركنى للفراغ.. كنا قد انتقلنا حديثا لبيتنا الجديد، أول بيت تملكه الأسرة، وبالطبع لم يكن لى أصحاب، كانت البيوت قليلة ومتناثرة، وأبحث عن أى "عيل" أتعرف عليه، وبعد التعارف وقليل من اللعب كانوا يسألوننى: أنت منين؟ كنت أجيب بفخر غريب: من السويس. ومرات أخرى أقول بور سعيد. وفى إحدى المرات "وسعت" منى وقلت: أبويا فى الجيش المصرى فى اليمن.
بالطبع كل هذا غير صحيح.
* فى ليلة 5 يونيه 1967 كنا نقفز على السلالم بأوامر حازمة وعنيفة من أبى، حتى ننزل إلى الدور الأرضى.. وعندما وصلنا، صعد هو إلى السطوح مع أعمامى، وتركنا للظلام وأصوات الطائرات والقنابل. وعندما عاد حكى لنا بشغف عن الأنوار الرهيبة التى تضىء السماء وعن طائرات إسرائيل وعن القاذفات التى تسقطها.
* خرجت لأشترى كيسا صغيرا من السكر، وكما تعودت فتحت فيه ثقبا صغيرا حتى لا تلاحظه جدتى، ومارست متعتى فى امتصاص السكر، وفى عرض الشارع وجدت رجلا يهرول كالمجنون ويصرخ: أبونا مات.. أبونا مات.
عدت وحكيت لأبى، فخرج مسرعا، عاد صامتا، ثم قال بأسى: جمال عبد الناصر مات. وبكى. وكانت هذه أول وآخر مرة أرى فيها دموعه.
* فى الصباح تجمع كل عيال الشارع من صبيان وبنات، وكان منهم بنت الجيران التى أخذ حبها من عمرى سنوات وسنوات، تمنيت أن ألفت نظرها. بحثت بحماس، عن قطعة قماش سوداء ولصقناها على قطعة من الورق المقوى وفوقها لصقنا صورة لعبد الناصر، ورفعناها على "عصايا" طويلة .. شعرنا بالخجل، لأن ملابسنا ملونة ولم نصبغها باللون الأسود مثل السوايسة - أى من السويس - ولكننا ذبنا فى شوارع شبرا الخيمة مع حشود الكبار الذين يبكون ويرددون: يا جمال يا حبيب الملايين .. عندما عدت إلى البيت لم يسألنى أحد: أين كنت لأول مرة؟
* هددتنى أمى بالضرب إذا خرجت أو حتى وقفت فى البلكونة، لكنى غافلتها وخرجت وعرفت من الناس التى تهرول فى الشارع أن هناك خناقة رهيبة بين السوايسة - من السويس - والشبراوية - من شبرا الخيمة- ومات ناس واحترقت شقق .. على ما أتذكر كان السبب هو أن الشبراوية، معظمهم من أصول ريفية، لم يتقبلوا دلع بنات السوايسة - اللى من السويس - وسمعت لأول مرة تعبير "ميه مالحة ووشوش كالحة".
كان ذلك بعد رحيل عبد الناصر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة