لم يقصد الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب، أن تعبر أغنيته الجميلة "جفنه علم الغزل ومن العلم ما قتل" عن واقعنا الاجتماعى الحالى، واقعنا الذى تضربه سكاكين الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، المستعدة للتقطيع فى نسيجه لأوهى الأسباب، ولا أقصد بدورى التقليل من نذر الاحتقان الطائفى بين عنصرى الأمة، الذى تفاقم بصورة عبثية غير مبررة وإن كانت مفهومة نسبيا فى ظل حالة التخبط التى تعانى منها ملفاتنا الداخلية والخارجية معاً.
أقول إن ما حدث منذ ساعات فى قرية الطيبة التابعة لمحافظة المنيا، من اشتباكات عنيفة بين الأقباط الذين يمثلون أغلبية القرية والمسلمين "الأقلية" عجيب حقاً، لأن أسبابه العادية لا ترقى أبداً لمستوى مقدمات فتنة طائفية تسفر عن قتيل مسيحى وآخر مسلم فى العناية المركزة يصارع الموت، وإصابة 4 مواطنين بإصابات مختلفة.
الحدث أن مواطناً مسلماً غازل مواطنة مسيحية، وهو حادث لا أخلاقى يعاقب عليه القانون، ولا يرضاه العرف الاجتماعى، ومع ذلك تزخر به الشوارع المصرية من الإسكندرية لأسوان، وعندما يتفاقم فإن الفتاة التى تتعرض للتحرش أو الغزل أو المعاكسة تحضر أخاها أو أقاربها لتأديب الشاب الذى "غلس عليها" فى عرف مصرى آخر، يكاد يكون من الملامح المعتادة للثقافة السائدة فى الشارع المصرى. والسؤال الآن: ما الذى يجعل حادث غزل أو لنقل "تحرش جنسى"، لا يرضاه بالطبع أحد منا لأخته أو لابنته أو لزميلته فى العمل، يتحول لفتنة طائفية؟
وقياسا عليه، ما الذى يجعل حادث سرقة محل يمتلكه مسيحى يتحول لفتنة طائفية، بدلاً من أن ينتقل إلى سجل قضايا الجنايات، وأن يعاقب القضاء مرتكبيه، دون أن يشغل حيزاً مبالغاً فيه؟
وما الذى يجعل حادثاً عادياً لمشاجرة بين مواطنين فى سوق الجمعة تصادف أن أحدهما مسيحى والآخر مسلم، لأن يشتعل السوق والحى والمدينة، وأن تبث وكالة الأنباء الفرنسية أخباراً عن حرب أهلية فى مصر بين المسيحيين والمسلمين؟
هناك ملاحظتان فى هذا الموضوع الخطير، أولاهما أننا فى مصر الآن للأسف الشديد نعانى من مرض اجتماعى ثقافى خطير، يمكن تسميته "بالاستعداد للوقوع فى الفتنة الطائفية" أشبه ما يكون بفيروس سى الكامن فى أكباد 40% من المصريين، حسب بعض الإحصائيات، وهى أعراض تنتقل من طور الكمون إلى طور النشاط ،عندما يتراجع الجهاز المناعى للإنسان، ومجتمعنا يبدو أنه يعانى الآن من تراجع ما كان يباهى به المجتمعات العربية المجاورة حتى وقت قريب، وأعنى به قوة اللحمة الاجتماعية بين عناصر المجتمع.
نحن فى أشد الحاجة إلى تشخيص من المتخصصين فى علم الاجتماع السياسى والطب النفسى للعرض الذى يعانى منه مجتمعنا حالياً، وأعنى به الاستعداد للفتنة الطائفية والرفض الفج للآخر وغياب مؤشرات التسامح بيننا، مع اقتراح العلاج الناجع الذى يعيد "الحالة المصرية" البهية وسط المجتمعات المجاورة.
الملاحظة الثانية التى أود الإشارة إليها تتعلق، بالصلة بين الاستعداد للفتنة لأوهى الأسباب، وبين تعامل المؤسسات الدينية والأمنية معها، فالمؤسسات الدينية تخطئ حين تتدخل فى كل حادثة خلاف بين مواطنين يتصادف أن يكونا مختلفين دينياً، لتسوق الكلام المحفوظ عن علاقة الحب والتسامح التى تسود الجانبين، وهى غير مضطرة لذلك مطلقاً لأنها لا تتدخل فى كل جريمة نشل أو ضرب أو سرقة أو تحرش يكون طرفاها الاثنان مسيحيين، أو مسلمين، فلماذا تتدخل فى الجرائم التى يكون طرفاها مسلماً ومسيحياً أو مسيحياً ومسلماً، وكـأنها تحاول إبعاد شبح الاحتقان والفتنة فتؤكده من حيث لا تدرى.
أما المؤسسة الأمنية، رغم ما عليها من ضغوط وما تبذله من جهد فإنها تخطئ حين تعتبر كل مشاجرة فتنة، وتتعامل معها على هذا الأساس بفرض حظر التجول، واعتقال جميع المشاركين فى التهييج والمشاجرة إلى حين ثم فرض الصلح العرفى على الجانبين، مع الإفراج عن جميع المشاركين فى المشاجرة أو التهييج أو التخريب وعدم إعمال القانون.
إن المؤسسة الأمنية مطالبة بإعمال القانون بحذافيره ضد من تحرش أو قتل أو سرق أو خرب أو تسبب فى تكدير السلم العام بصرف النظر عن دينه أو نوعه أو لون بشرته، وعندما يحدث ذلك، ستتراجع أعراض نقص المناعة المجتمعية، وتعود "الحالة المصرية" التى كنا نفاخر بها المجتمعات الأخرى إلى سابق عهدها.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة