الحل فى إعادة صياغة المجتمع فى مصر على أسس ديمقراطية حقيقية تحترم الحريات العامة والفردية، وتضع الدين فى مكانه الطبيعى فى عالم السياسة.
أجمل ما سمعت من الدكتور هانى عنان، أحد أبرز مؤسسى حركة كفاية، هو تلك الكلمة الساحرة التى يرى فيها أن التحدى السياسى الأكبر اليوم فى مصر ليس معارضة السلطة الحالية حول قضايا الحياة اليومية أو إصلاح مسيرة التشريعات المنظمة للعمل السياسى فحسب، بل التحدى الأكبر سياسيا واجتماعيا وشعبيا هو فى (تصفية ما أحدثه العسكر) منذ ثورة يوليو عام 1952.
هانى عنان ليس من الصنف الذى ينكر على الرئيس جمال عبدالناصر تاريخه السياسى ونضاله من أجل مصر ومعركته ضد الاستعمار أو جهاده من أجل التنمية، وليس من النوع الذى يختزل زعيما تاريخيا كبيرا بحجم ناصر أو ثورة مجيدة مثل ثورة يوليو فى كلمات عجاف لا تسمن أو تغنى من جوع، لكنه من النشطاء الوطنيين الذين يتأملون فى أحوال البلد فيدركون أن مأساتنا أكثر عمقا من أن يكون الحل فيها بأيدى الحكومة وحدها، وأن همومنا الوطنية أوسع من أن يواجهها حزب واحد قابض على السلطة، ومعارضة جامحة تغرق فى الشتات أو حركات احتجاجية يعصف بها الهوى و تفككها المطامع والمغانم الصغيرة.
التحدى فى مصر ليس فى حسم مسألة تداول السلطة أو فتح أبواب البرلمان لعدد أكبر من المعارضين أو الاستجابة لتوصيات الأحزاب فى مشروعات القوانين أو حل حكومة رجال الأعمال، الحل أصعب من ذلك وأكثر تعقيدا، الحل فى إعادة صياغة المجتمع فى مصر على أسس ديمقراطية حقيقية تحترم الحريات العامة والفردية، وتضع الدين فى مكانه الطبيعى فى عالم السياسة، وتعيد خلق منظومة اجتماعية وتعليمية وثقافية وإعلامية تستنهض فى هذه الأمة أعظم ما فيها، وتعيد خلق روح المشاركة التى عصفت بها أعوام ما بعد يوليو، فمصر الحرة التى نعمت بسنوات من العمل البرلمانى والحزبى والليبرالى قبل الثورة تستحق أن تسترد هذه الروح الليبرالية من جديد، ومصر التى عاش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود جنبا إلى جنب فى مودة ورحمة لأجيال متعاقبة لا تستحق أن تندلع فيها الفتن الطائفية على هذا النحو، أو ينقطع فيها الحوار بين الأديان والثقافات، أو تتراجع فيها أصوات التنوير تحت زحف قوى التطرف والتشدد، أو تحت سلاح كتائب استغلال الدين فى اكتساب الشرعية السياسية من السلطة تارة أو من خصوم النظام تارة أخرى.
تصفية ما أحدثه العسكر، شعار استراتيجى يستحق التأمل خاصة إن كان صاحب هذا الشعار هو أحد المعارضين الأفذاذ للسلطة الحاكمة، وفى تقديرى أن هذا الإدراك الناضج من الدكتور هانى عنان يمثل نقطة تحول بالغة الأهمية ونافذة الدلالة فى الخط العام لقيادات المعارضة وحركات الاحتجاج فى مصر، فهو إدراك يؤكد أن الإصلاح الحقيقى يجب أن يبدأ من الشارع، من أسفل السلم لا من أعلى السلم، فى الثقافة العامة بين الناس، فى الوعى الجماهيرى بأهمية التحديث، وتقديرى أن تصفية ما أحدثه العسكر تعنى حصار الفتن والتحزب ووقف عجلة استغلال الدين فى السياسة، وتعنى احترام الآخر، والقدرة على الحوار، والوعى بأهمية المشاركة، واحترام القانون، فما المعنى أن نطالب بالإصلاح السياسى من أعلى مستويات السلطة ثم تخفق الأحزاب فى الإصلاح الداخلى، وما الفائدة إن كنا نطالب بالتحديث العام وتوسيع الحريات السياسية بينما تتراجع قدراتنا على احترام الحريات الفردية.
تصفية ما أحدثه العسكر تعنى الثورة على البيروقراطية، والجمود، وتراجع الحريات، واحترام العلم، وشيوع ثقافة التعايش، وتعنى احترام دور الرأسمالية الوطنية فى العمل العام، وفتح مسام الثقافة المصرية للاستيعاب المحترم لثقافات العالم دون تجاوز الهوية الوطنية، وتعنى أيضا شيوع روح العمل والمشاركة والإبداع والترقى والمؤسسية، ليس على المستويات الحكومية فقط، بل على جميع المستويات السياسية والحزبية والاقتصادية والاجتماعية فى البلاد.
هى كلمة كبيرة ومفصلية وتستحق أن تكون عنوانا لمرحلة جديدة، مرحلة لا تحمل هذه الحكومة وحدها مسئولية التردى العام، ولا تحمل النظام الحالى وحده خطايا ما جرى فى المجتمع، بل تنظر إلى هذه المسيرة منذ 1952 وحتى اليوم فى سياق متكامل، حتى يأتى الحل شاملا وجامعا ومانعا، لا مؤقتا ومبتورا وزاعقا بلا معنى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة