حتى الآن لم يصدر عن الإدارة الأمريكية أى اعتذار رسمى عن الجريمة البشعة التى ارتكبتها بحق سوريا، والتى راح ضحيتها ثمانية عمال بسطاء بينهم سيدة وأربعة أطفال فى غارة نفذتها أربعة مروحيات تابعة للجيش الأمريكى المحتل للعراق، من حق سوريا أن تغضب ومن حق العرب أن يقلقوا ومن حق المجتمع الدولى أن يطالب الولايات المتحدة بتقديم اعتذار رسمى وتبرير منطقى للعدوان الآثم.
هذا العدوان الغاشم الذى تزامن مع سخونة المنافسة فى انتخابات الرئاسة الأمريكية بين الديمقراطى الأسود باراك أوباما والجمهورى الأبيض جون ماكين، وما تركته المعركة بينهما من حالة ترقب وحذر على الأنظمة العربية ومنها سوريا بالطبع، كما تواكب العدوان الغادر مع صراع تخوضه قوى سياسية عراقية ضد تمرير الاتفاق الأمنى المشبوه الذى تسعى إدارة بوش أن تجعله نهاية عهدها بالورطة الأمريكية فى العراق. كما أن الحادث وقع خلال فترة برودة سياسية بين دمشق وعدد من العواصم العربية الكبيرة منها القاهرة والرياض.
كنت أتمنى أن تتصدى الطائرات السورية أو حرس الحدود أو أى قوة جوية أو أرضية للمروحيات الأمريكية أو حتى على الأقل تنذرها وتضطرها للهروب من الأجواء السورية، لكن المؤلم أن القوات الأمريكية المعادية تمكنت من عبور الحدود وتنفيذ الجريمة من دون أى مقاومة.
كالعادة شجبت أغلب الدول العربية الحادث, ربما بعضها الآخر فضل الصمت ولم يكلف نفسه حتى مجرد الاعتراض النظرى على هذا النوع من التصرفات الأمريكية المستفزة، سوريا المعتدى عليها لم يكن بوسعها سوى الإدانة عبر الوسائل الدبلوماسية التقليدية وإغلاق المركز الثقافى والمدرسة الأمريكية فى دمشق، تجاوباً وامتصاصاً لموجة الغضب الشعبى التى عمت الشارع السورى ضد العدوان الأمريكى. الجامعة العربية التى تعتبر المورد الأول لبيانات الشجب والإدانة، قرر أمِينُها العام هذه المرة أن يتمرد على أسلوب الشجب التقليدى الذى اعتدنا على متابعته عبر فاكسات تصل لكل وكالات الأنباء العربية والدولية، هذه المرة قام بعقد مؤتمر صحفى كان محوره الرئيسى أيضاً هو الشجب ثم اختتمه بالإدانة.
العدوان الأمريكى على "البوكمال" تلك القرية الصغيرة الواقعة على الحدود العراقية السورية الممتدة بطول 700 كم، سيبقى عالقاً فى أذهان كل سورى بل وكل شعوب البلاد المجاورة للعراق لأنه سيكون الأسلوب الأمريكى القادم فى التعامل مع أى خطر محتمل على قواتها التى ستبقى تحتل العراق عقوداً عديدة قادمة، ربما تكون القوات الأمريكية التى نفذت الهجوم على القرية الحدودية السورية كانت تعلم بأن المستهدفين عمال بسطاء كما هو واضح من بقايا أشلائهم، لكن من الواضح أنها استهدفت المساس بالكرامة السورية والنيل من سيادتها على طريقة "اضرب المربوط يخاف السايب" والسايب هنا هى إيران التى تعد الحليف الأول لسوريا فى المنطقة، والخطر الأول أيضاً على الوجود الأمريكى الطويل فى العراق.
لا شك أن الولايات المتحدة هى القوى العظمى الأولى فى العالم اليوم، لكنها بعدوانها الغادر على عمال قرية البوكمال السورية أضافت إلى ألقابها لقباً جديداً سوف يسجل باسمها فى تاريخ الأمم بأنها القوى العظمى المحتلة التى تنتهك القوانين وتدوس على الأعراف والقوانين الدولية بأحذية جنودها، أتصور أن الولايات المتحدة خسرت الكثير من الأموال فى أزمتها المالية الأخيرة لكنها خسرت الأكثر من رصيدها الأخلاقى والإنسانى بعدوانها الوحشى على عمال مدنيين عزل من السلاح أو أى وسيلة للمقاومة، وأرادت فقط أن تبعث من خلال أشلاء الضحايا برسالة قوية إلى جيران العراق وتضرب عصفورين بحجر، أولهما أنها سواء وقعت الاتفاقية الأمنية أو لم توقعها، يمكنها انتهاك سيادة هؤلاء الجيران، وهى تعرف مقدماً أن رد الفعل سيكون مجرد حزمة من بيانات الشجب والتنديد، وثانيهما دعم الحملة الانتخابية للمرشح الجمهورى الذى يترنح أمام منافسه الديمقراطى.
أتوقع أن تكون الإدارة الأمريكية القادمة، سواء كانت تحت قيادة أوباما أو ماكين، ستكون أكثر وعياً بخطورة الاستهانة بغضب الشعوب، وستعلم الإدارة الجديدة بأنها إذا كانت قادرة على قهر الحكومات الفاسدة فى هذه المنطقة من العالم، فإنها سوف تحصد نتائجه فى شكل غضب وكراهية وحقد شعوب وأبناء هذه المنطقة على كل ما هو أمريكى، وهذا النوع من الغضب أشد خطراً على المصالح والوجود الأمريكى من أى سلاح آخر.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة