كأنى ألقيت بصخرة فى بحيرة راكدة، فقد أثار مقال "الصحافة غير القومية" ردود فعل متباينة بين الزملاء والأصدقاء والقراء أيضا .. تفاوتت الردود بين متحمسة وعاتبة ثم غاضبة محذرة.
أبدأ بمن تحمسوا لمضمون المقال، حيث اعتبروه قد مس واقع المؤسسات الصحفية القومية المؤلم مساً خفياً لم يصل إلى عمق المعاناة، ولم يشخص بدقة المرض العضال الذى تئن منه أغلب هذه المؤسسات .. البعض زايد على ما كتبته، متوقعين سقوطاً مدوياً للصحف القومية فى وقت قريب، معتبرين أن ملامح هذا السقوط هو النفور الذى بلغ حد مقاطعة شرائح عديدة من القراء لعدد ليس قليل منها.
أما العتاب فقد جاء من زملاء مقربين بنوا عتابهم على أساس انتمائى للصحف القومية، وأننى كنت قاسياً فى الحكم على دور هذه المؤسسات التى لعبت دوراً هاماً فى خدمة قضايا مصر الوطنية، فى وقت لم يكن لدينا أوعية صحفية سواها، ثم أصل إلى التحذير، فقد قامت دوافع المحذرين من رد الفعل الانتقامى لكل من مستهم كلماتى من قريب أو من بعيد، بحيث أدفع أنا ثمناً باهظاً لمجرد جرأتى على الاقتراب من هذه المنطقة الحساسة التى سيدافع عنها المستفيدون من بقاء الوضع على ما هو عليه بكل شراسة وحسب ما يملكون من قوة.
أقول لهؤلاء وأولئك أن مقالى السابق كان مجرد جرس إنذار للجهات المسئولة عن هذا القطاع الذى أظن أنهم يعلمون أكثر مما كتبت بكثير جدا، ولكن لا أدرى لماذا يلجأ المسئول فى بلادنا إلى الاختيار الخطأ بينما متاح أمامه الاختيار الصواب!؟ للمعاتبين أقول أيضا إننى لجأت إلى الكتابة بهذه الطريقة "الناعمة"، باعتبارها أضعف الإيمان لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس.. فأنا أكره الصمت ولا أرغب أن أكون شيطاناً.. الأهم أننى ليست لى مآرب ولا أجندة خاصة، ولا أسعى إلى تحقيق أى منفعة شخصية لكن دوافعى الحقيقية هى المصلحة العامة التى تعتبر فى النهاية مصلحة قومية!
على كل حال، أنا متمسك بأنه لو استمر الوضع فى هذه الصحف على ما هو عليه، تكون الحكومة ومن يمثلها فى إدارة شئون هذه المؤسسات قد ارتكبوا خطيئة كبرى فى حق مهنة الصحافة والمجتمع مالكها الحقيقى، وبنظرة سريعة على أرقام توزيع أغلب الصحف القومية نكتشف المفاجأة وهى أنها فى تراجع مستمر، رغم كل ما لديها من إمكانيات وميزانيات مفتوحة، ولذلك فإن حجم التأثير والقيمة المضافة التى تقدمها للمجتمع أصبحت متواضعة للغاية.
ففى السنوات الأخيرة، وبالتحديد منذ ثلاث سنوات، ترسخ لدى الرأى العام مفهوم أن هذه الصحف تعمل كمحامٍ عن الحزب الوطنى وناطقة بلسانه ومناصر مجانى لحكومته، هذا المفهوم عمقه الانتماء الحزبى لرؤساء التحرير، وهو بدعة جديدة اخترعها قادة الحزب "الجدد" لخدمة أهداف ومصالح حزبية ضيقة على حساب المصالح الوطنية العليا، فمثلاً لم أتصور أن الراحل الكبير أحمد بهاء الدين بكل مصداقيته المعروفةٍ كان يقبل أن يكون عضواً بالحزب الوطنى! وهل إحسان عبد القدوس كان يمكن أن يحظى بهذا الحب والشعبية وهو عضو بأى حزب سياسى حتى لو كان الحزب الوطنى؟
فى اعتقادى، أن المدارس الصحفية العريقة فى مصر استمدت تأثيرها السابق من استقلال رؤساء تحريرها النسبى، وبالتالى جعلها بحق مؤسسات قومية يمكن الوثوق بها وبمن يعمل فيها. أما الآن فكيف نثق فى مؤسسات يسيطر عليها حزب ارتبط فى أذهان أغلب المواطنين بأنه تجمع لحزمة من رجال الأعمال الفاسدين سيئى السمعة، ومن ثم فإن الأفضل للسلطة وللمجتمع أن تظل هذه المؤسسات بعيدة عن الحزبية كى تحافظ على قوميتها، لأن الوضع القائم سلبها ثقة الرأى العام ومنح الصحف الخاصة فرصة تسجيل الكثير من نقاط التفوق والتميز، مستعينة بخبرات وكوادر الصحف القومية "المجمدة".
أما الثأر البايت بين بعض العاملين فى الصحف القومية والصحف الخاصة، أتصور أن أغلب الصحفيين يعرفون جيداً أن هناك ثلاث جهات "سيادية" تفحص أوراق شركات الصحف الخاصة، هذه الجهات تعرف كل كبيرة وصغيرة عن ممولى الصحف الخاصة ومصادر أموالها التى ربما يكون بعضها "غامض" وسيرة بعض مؤسسيها أكثر غموضا، ومع ذلك فالمسئولية تقع على الدولة وأجهزتها حتى نستريح من صداع التلميحات والتشكيك الدائم فى مصادر تمويلها.
فى النهاية، الصحف الخاصة تعمل بأموال خاصة مهما اختلفنا حول مصدرها، لكن الدور يبقى على الصحف القومية التى يتمتع العاملون فيها، وأنا منهم، بأموال عامة مصدرها عرق الشعب المصرى الكادح الذى يجب أن يكون ولاؤنا وانتماؤنا الأول والأخير له وحده وليس لأى حزب سياسى حتى لو كان الحزب الوطنى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة