هؤلاء الذين تربوا لسنوات طويلة على المركزية الصارمة، والالتزام الحزبى الدقيق، مطالبون اليوم بأن يكونوا هم طلائع اللامركزية فى الحزب أنا جاهز لكى أصدق ما يقوله الحزب الوطنى حول مشروع «اللامركزية»، ومستعد للإيمان بكل ما يقوله قادة الحزب فى هذا المجال، فمن ذا الذى يحب أن تسود المركزية هنا فى بلادنا؟ ومن ذا الذى يعادى تقسيم السلطة بين القاهرة والأقاليم، أو بين رئيس الوزراء والمحافظين، أو بين رئيس الجمهورية وطاقمه من رجال الدولة؟ المشكلة الوحيدة أن يتحول هذا الشعار اللافت من فكرة نبيلة، إلى مشروع لتقسيم السلطة والنفوذ فى المحافظات بين الشلل غير المتجانسة داخل الحزب الحاكم.
الحزب يضع قضية اللامركزية على رأس أولوياته فى المؤتمر السنوى الخامس، المقرر انعقاده فى مطلع نوفمبر المقبل، وتصريحات قادة الحزب تشير إلى أن الهدف من هذا الشعار هو تعزيز دور المحليات فى صناعة القرار، وإتاحة فرصة أكبر للمحافظين فى إدارة الأقاليم الواقعة تحت إدارتهم، لكن الهاجس الأساسى هو فى كيفية تطبيق اللامركزية بين أطقم من التابعين وتابعى التابعين، ما كان لهم أن يتخذوا قرارا إلا بعد العودة إلى القيادة السياسية فى العاصمة، ولم يحق لهم يوما أن يبادروا إلى عمل صالح أو طالح إلا بعد المشورة والاستئذان، واستطلاع هلال الموافقة فى المقر الرئيسى على كورنيش النيل بالقاهرة.
هؤلاء الذين تربوا لسنوات طويلة على المركزية الصارمة، والالتزام الحزبى الدقيق، والسمع والطاعة فى المنشط والمكره، مطالبون اليوم بأن يكونوا هم طلائع اللامركزية فى الحزب، وفى الأجهزة التنفيذية، وفى الإدارات المحلية، إنه المأزق نفسه الذى عشناه طوال سنوات التحول من القطاع العام إلى اقتصاد السوق، فالاشتراكيون من بقايا الجهاز الحكومى، هم أنفسهم الذين استخدمتهم الدولة لتطبيق آليات السوق الحرة، فلا صرنا أحرارا اقتصاديا حقا، ولا تركنا أعتاب مركزية الدولة فى صناعة القرار، وهكذا نعود مجددا لنستخدم هؤلاء الموظفين، الذين ينتظرون رأى العاصمة فى كل صغيرة وكبيرة، وندعوهم لكى تشرق على أيديهم شمس اللامركزية.
هذه الأوضاع يمكن أن تفتح الباب لوأد هذه الفكرة النبيلة فى مهدها، وبدلا من أن تتحول البلاد نحو اللامركزية فى الفكر والسلوك وصناعة القرار، تصير ساحة لاقتسام النفوذ بين الكبار، فكل محافظ يعرف من هو الراعى الرسمى له داخل جهاز الحكم، وكل أمين للحزب يعرف من يقدم له الدعم والمساندة السياسية فى الأمانة العامة، ومن ثم فإن اللامركزية يمكن أن تكون مفتاحا لأن يستند كل محافظ «لا مركزى» على أبيه الروحى هنا فى العاصمة، وأن يبادر كل أمين للحزب أو مسئول فى الإدارة المحلية إلى اتخاذ قرارات «لامركزية» بناء على التوجيه الصادر إليه من قيادته الروحية هنا فى المقر الرئيسى للحزب. وأكرر هنا، إن اللامركزية إن جرت على هذا النحو، يمكن أن تنحرف عن مسارها، وبدلا من أن تصبح جسرا نحو توزيع السلطات، وسرعة اتخاذ القرار، وفتح مسام البلد ديمقراطيا، تتحول إلى ملعب خلفى واسع المدى لقطاعات النفوذ للقادة الكبار فى الحزب والحكومة.
هل يعنى هذا أن نعارض هذا المشروع، أو نعرقل هذه الفكرة؟
الإجابة حسب ظنى، لا، فنحن مع احترام هذا المشروع، باعتباره خطوة نحو المزيد من تفتيت مركزية القرار، لكن هذا التفتيت لا يمكن أن يجرى بعيدا عن سلطة البرلمان، ولا يمكن أن يتم بدون تعزيز دور المجالس الشعبية المحلية، إلى الحد الذى تراقب فيه بحسم ما يجرى داخل المحافظات، ولا يمكن لمشروع بهذا الحجم أن يتم بدون آليات قانونية وتنفيذية، تضمن نزاهة الإدارة فى التطبيق، ونزاهة المحافظين ورجال المحليات فى التعامل مع هذه الغاية، ووضعية أوسع وأكثر تأثيرا لمنظمات المجتمع المدنى فى الأقاليم، وما يمكن أن تقوم به فى الرقابة والتأثير والدعم والمشاركة.
لا ينبغى على الحزب فى مؤتمره المرتقب، أن يطلق هذا الشعار جافا مجردا، أو أن يبشر به بكل التفاؤل بلا سياق قانونى ورقابى ومدنى، يضمن نجاحا حقيقيا ينعكس على المصلحة العامة للناس. ولا ينبغى على الحزب أن يغازل الناس باللامركزية دون حساب للمخاوف، ودون تقدير لطموحات بعض الشِّلل فى السيطرة، أو الميل الفطرى لدى رجاله فى الأقاليم للاستناد على المرجعيات المركزية فى القاهرة.
إن كان شعارا فارغا، فالبلد يعانى من تخمة الشعارات، وإن كان قرارا صادقا، فارفقوه بما يستحقه من إجراءات واعية.