نحن نتحدث عن دولة مدنية بينما كل شىء من حولنا (بوليسى)، نتحدث عن ثقافة الديمقراطية، بينما العدل لا يتحقق إلا بعد أن يقول الأمن كلمته. كنت أظن، مثلك، أننا نعيش عصر التحول إلى دولة المؤسسات قبل الشروع فى تأسيس هذه الصحيفة، ومع قسوة مشوار التأسيس أدركت أننا نعيش عصر مؤسسة واحدة فقط جبرًا وقسرًا هى مؤسسة (مباحث أمن الدولة).
لا ورقة أو اسم أو بيان أو رقم أو إجراء فى مسيرة التأسيس إلا ويخضع مباشرة لسلطان المباحث، لا مؤسسة فى مصر يمكنها أن تعطيك كلمة أو تقطع على نفسها وعدًا أو تلتزم بتنفيذ نصوص القانون قبل أن تتشاور مباشرة مع جهاز أمن الدولة، وتنتظر الكلمة الأخيرة من جنرالات لا تدركهم الأوراق، لكنهم يسيطرون على كل الأوراق، ولا يصرخون فى وجهك علنًا، لكنهم يحركون الصراخ أو الصمت، الموافقة أو الرفض، الرضا أو النقمة، من وراء حجاب.
سيطرة مباحث أمن الدولة على كل صغيرة وكبيرة فى مصر تذهب إلى ما هو أبعد من حدود دائرة العمل العام والرقابة على الأحزاب أو الصحف أو التيارات السياسية فى الشارع، وتصل إلى حد الهيمنة على القرارات الاقتصادية والمالية والثقافية وشئون الجامعات والمدارس والمساجد، والكنائس، وأفلام السينما،وعروض المسرح، وربما كل شىء من حولنا.
الأبحاث العلمية فى الجامعة تنتظر موافقة مباحث أمن الدولة، سيناريوهات الأفلام السينمائية تمثل تحديا للمخبرين التابعين للجهاز، وصولا إلى مناطق النقد والهجوم على سياسات السلطة داخل كل فيلم سينمائى قبل التصوير وبعده، أسماء القيادات التنفيذية المرشحة لمواقع حكومية تنتظر تقارير أمن الدولة، تعيين الخريجين فى النيابات، تعيين العمد والمشايخ والمسئولين فى المحليات، اختيار القيادات الإعلامية فى مؤسسات الدولة، حتى تعيين مدراء المدارس والمدرسين فى العاصمة والمحافظات، أو اختيار خدم المساجد، أو أئمة خطب الجمعة، لا يمكن لأحد من هؤلاء جميعًا أن يرى النور، أو يفوز بمنصب، أو أن يحصل على عمل، قبل أن يقول الجهاز كلمته الأخيرة.
ما يجرى صدمة وعبث وإتقان فى بناء ثقافة الدولة البوليسية دون غيرها، واستمرار هذه المنظومة داخل جهاز الدولة بديكور (مؤسساتى) لا ظل له فى الواقع، بينما الأمن هو المؤسسة الوحيدة صاحبة القرار، ليس سوى إهدار لمشروع الدولة المدنية، وترسيخ لثقافة الخوف المتبادل بين السلطة والناس.
أنت تتحدث عن دولة مدنية بينما كل شىء من حولك (بوليسى)، تتحدث عن ثقافة الديمقراطية، بينما العدل لا يتحقق إلا بعد أن يقول الأمن كلمته، تحلم بالحرية فيما كل حريتك مرهونة بأن يقول السادة الذين فى الظل قرارهم الحاسم.
من قال إن بناء كهذا يمكن أن يثمر عملا مدنيًا صحيحًا، ومن يزعم أن إدارة على هذا النحو يمكن أن تتحرك نحو المزيد من الديمقراطية، ثم من يدعى أن ديمقراطية تحت هذا المستوى من الرقابة الأمنية، يمكن أن تقود بلادنا إلى الاعتراف بثقافة تداول السلطة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة