يرقص أهل الصعيد طربا وفرحا، بل الصعيد نفسه هو الذى يرقص على واحدة ونص، بسبب حالة الاهتمام الحكومية بمشاكله، هذا ما تقوله صحف الحكومة وتزيد عليه، إذا تعلق الأمر بزيارة يفتتح فيها الرئيس مصنعا - قد يكون مفتتحا قبل ذلك - أو زيارة يتفقد فيها جمال مبارك أحوال الرعية، أو احتفال تفتتح فيه السيدة الأولى مكتبة أو مدرسة، دون أن تنسى أن تشيد بتطور المرأة الصعيدية، أو جولة يقوم بها أحمد نظيف لمتابعة مايسمى بإنجازات الحكومة.
بنفس هذا الشكل يكتمل السيناريو فى كل زيارة رئاسية أو حكومية، فرح وتهليل وإشادات رسمية بالدولة، التى تذكرت الصعيد وتسعى لنهضته، وبالتوازى وإرضاء للرئيس ورغبته، تسارع المراكز الحقوقية هى الأخرى لدعم الصعيد، مثلما حدث ونظموا حملة كبرى لتحويل مسار لحوم الأضاحى من الشمال إلى الجنوب.. حتى هنا وكل شىء تمام ولا عتراض إلا من جاحد.
يبقى سؤال أعلم أنه «غلس»، و«أوفر»، ولكن من أجل هذا خلق الله علامة الاستفهام وعلامة التعجب، لماذا لم يندفع الذين هللوا للرئيس صاحب خطة تنمية الصعيد، لمحاسبة الرئيس نفسه على أكثر من 25 عاماً تجاهل فيها الصعيد بكفوره ونجوعه؟، ولماذا يخشى مسئولو الدولة الكبار من زيارة الصعيد إذا كان طيب الأهل، عظيم الأهمية كما يقولون؟ لماذا تغلق مدن الصعيد بالضبة والمفتاح مع كل زيارة رئاسية، أو شبه رئاسية يقوم بها السيد جمال مبارك؟ لماذا تتبع أجهزة الأمن كل هذه الإجراءات الصارمة وكل خطط التمويه والغموض، حينما يقرر الرئيس أو غيره من الكبار زيارة الصعيد؟.
هل أهل الصعيد «كخة»، هل أنفاسهم معدية لدرجة أن تغلق الأجهزة الأمنية 8 طرق رئيسية فى المنيدا، وتصادر 33 سيارة أجرة بسبب زيارة جمال مبارك للمنيا الأحد الماضى؟، هل أهل الأقصر من آكلى لحوم البشر حتى تغلق شوارع مدينتهم الرئيسية ومحالها التجارية، ويحبسوا داخل منازلهم لأن قرينة الرئيس كانت فى ضيافة بلدتهم السبت الماضى؟.
لا أعرف إن كان جمال مبارك قد شاهد من قبل فيلم ناصر 56، أو تمتع بتفاصيل أى صورة لناصر أو السادات أو نجيب فى قطار الصعيد، من المؤكد أنه إن لم يكن قد شاهد، فقد سمع، ولكنه لم يفكر فى أن يعيش التجربة، أو ربما فكر ولكنه خشى أن يسعى للتنفيذ، فلا يجد جمهورا فى انتظاره.
عموما الخطأ ليس على السيد جمال مبارك بالطبع، فهولاء القوم لا يخطئون طبقا لتأكيدات الصحف الحكومية، الخطأ هنا يقع على عاتق فضوله، الذى لم يدفعه للتفكير ولو لمرة واحدة لتجربة زحمة الشوارع، أو معانقة أيادى الجمهور، خطأ من أفهموه بأن أهل الصعيد غلابة وأمراضهم معدية، وأياديهم العاملة فى المحاجر والأراضى، حاملة لميكروبات لايصح أن تعرف طريقا لليد الرئاسية، الخطأ هنا يقع على عاتق نفسه البشرية التى أقنعته أنه لا يريد من هؤلاء الناس سوى أصواتهم، أما أيديهم فهو لا يريد عناقها، ولا يخشى بطشها.