فصل الإنسانى عن السياسى كان الفريضة الغائبة التى لم تلتزم بها مصر، ولم تدركها تحت إلحاح فتح وتحت الوهج الزائف بفكرة (أن الحصار سبيل لإضعاف حماس)، وهذا الفصل إن استمر لن يمكن القاهرة من الوصول إلى نتائج حقيقية فى الحوار الفلسطينى.
أهل غزة وحدهم يدفعون ثمن هذا العناد السياسى الدائم والمعتاد بين أطراف المأساة فى الداخل الفلسطينى بلا خطيئة اقترفوها أو إثم سياسى يتحملون أوزاره. القاهرة لا تريد أن تلين قبل أن تلين حماس فى مفاوضاتها مع فتح وتنهى مأساة الانقسام الكبير فى المعسكر الفلسطينى، وحماس لا تريد لأحد أن يلوى ذراعها بالماء والطعام، وسوريا لا تريد لأحد أن ينتصر سوى هؤلاء الذين يعتبرون دمشق عاصمة النضال وأرض الصمود والتصدى، وفتح لا تريد للقاهرة المشاركة فى كسر الحصار على القطاع البائس حتى لا تضيف إلى رصيد حماس السياسى بين أهالى غزة، وفى النهاية يدفع البسطاء والفقراء والمحرومون ثمن كل ذلك، السياسيون يعاندون، لكن الأمهات الفلسطينيات يقاسين اللوعة والمرارة، السياسيون يقامرون على طاولة التفاوض، لكن أبناءنا من طلاب الجامعات المصرية لا يهنأ لهم بال، ولا يستقر لهم ضمير وهم يشعرون أن بلادهم مدانة بالمشاركة فى حصار غزة حتى وإن كانت هذه الإدانة باطلة.
الحقيقة فى ظنى أن القاهرة «ورغم اعتراضى على سياسات حماس» تتحمل إثما كبيرا فى هذه المأساة بلا شك، ولا أريد هنا بهذه النتيجة أن أضيف اتهاما آخر للسياسة المصرية أو أن أنضم إلى القافلة السورية التى تنتقد مصر فى السر والعلن، ولا أريد أيضا أن أنحاز إلى معسكر حماس الذى يميل إلى (التترس) بأهل غزة، لكننى أحمل القاهرة الجزء الأكبر من المسئولية؛ لأنها أخفقت فى فصل الإنسانى عن السياسى فى هذه اللعبة، فمصر أكبر من أن تنزلق إلى الاستجابة لمطالب حركة فتح أو سيناريوهات الضغط التى يمارسها محمود عباس، ومصر أيضا أكبر من أن تتقاسم مع إسرائيل استراتيجيتها الإقصائية تجاه حركة حماس.
القاهرة ظنت، مثل فتح وإسرائيل، أن الضغط الإنسانى على القطاع قد يجبر حماس على تقديم تنازلات على طاولة التفاوض، وتوهمت أيضا أن أهل غزة قد ينقلبون يوما على الحركة فى ظل استمرار المعاناة الإنسانية شمالا من إسرائيل، وجنوبا من مصر، وهذا التصور هو جوهر الخطأ فى الأداء السياسى المصرى تجاه المفاوضات، فحماس حركة أيديولوجية تنتعش بهذه الضغوط، وتنجح فى حشد المزيد من التعبئة الشعبية لمساندتها بتصوير مصر والعرب فى المعسكر الإسرائيلى ضد (إسلامية المقاومة)، و تعرف القاهرة أن الشارع الفلسطينى مؤهل بالطبع لهذا النوع من التعبئة، ومن ثم فقدت مصر رصيدا شعبيا مهما داخل القطاع، ومنحت حماس فرصة أفضل للحشد، ومنحت سوريا فرصا أعظم للهجوم، وفقدت روابط كانت دافئة مع قيادات حركة المقاومة الإسلامية. ولم تفقد السياسة المصرية رصيدا شعبيا داخل غزة فحسب، لكنها فقدت بنفس القدر رصيدا لدى الرأى العام المصرى الذى عبر عن نفسه فى مظاهرات غاضبة فى الجامعات، واعتصامات أمام النقابات المهنية، واحتجاجات على قطع قوافل المعونات التى حركها المجتمع المدنى صوب أهالى غزة.
فصل الإنسانى عن السياسى كان الفريضة الغائبة التى لم تلتزم بها مصر، ولم تدركها تحت إلحاح فتح وتحت الوهج الزائف بفكرة (أن الحصار سبيل لإضعاف حماس)، وهذا الفصل إن استمر لن يمكن القاهرة من الوصول إلى نتائج حقيقية فى الحوار الفلسطينى، ولن يؤدى بأى حال إلى قهر حماس (المتترسة) بأهالى القطاع، والحل الحقيقى هو أن تتخلى القاهرة عن هذه الضغوط، وتظهر سعة صدر وسماحة أكبر تجاه المساعدات الإنسانية؛ لتؤكد لأهالى غزة أنها لا تريد لحماس أن تتنازل تحت إلحاح الحاجة، بل أن تتنازل لمصلحة القضية الفلسطينية، ولوحدة الشعب الذى لن يحقق خطوة واحدة نحو الدولة وهو على هذه الحال من التردى. القاهرة تستطيع ذلك إن قررت أن تفتح أبواب المعبر بآليات منظمة وباتفاقات واضحة مع الحركة تضمن عدم تكرار أزمة الحدود، والقاهرة تستطيع ذلك إن تعاملت مع حماس على أنها صوت فلسطينى يجب أن يسمعه كل الأطراف، لا على أنها مغتصب انقلب على السلطة فحسب.
يجوز لحماس أن تخطئ وسط كل هذه الضغوط من حولها إسرائيليا وعربيا، ولكن لا يجوز للقاهرة أن تخطئ مادامت تمتلك زمام المبادرة وتتمتع بثقافة الشقيقة الكبرى، ومساهمة القاهرة رسميا وشعبيا فى تخفيف الحصار هى الخطوة الأولى فى تحقيق التقدم على صعيد الحوار الفلسطينى المشترك. من أجل غزة، ومن أجل أهلنا فى القطاع، ومن أجل مصر أيضا.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة