د.سعيد اللاوندي

ظاهرة "اللَبننة" فى الإعلام العربى

الخميس، 14 فبراير 2008 05:30 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أعرف جيداً أنه بطرح هذا الموضوع، إنما أقترب من "عش الزنابير" الذى لطالما رأيناه، وامتثل كثيرون له خوفاً من اللدغات التى قد تكون فى بعض منها سامة وقاتلة!ولئن كنت أتجشم أهوال هذا الاقتراب، فليس لادعاء البطولة، وإنما لأن الأمر بات واضحاً لا يخفى على كل ذى عينين، إلا من شاء لنفسه أن يكون أعمى أو متعامياً!.. والقضية هى أن الإعلام اللبنانى قد صادر - بحق- الإعلام العربى، كل الإعلام العربى، لحسابه الخاص، فاللغة الإعلامية فى كل وسائل الميديا - تقريباً- أصبحت لبنانية بامتياز أعنى المصطلحات، والمفاهيم، وطريقة الكتابة كما تأثر الأسلوب، رغم خصوصيته بالنهج اللبنانى.فهناك كلمات كثيرة بتنا نكتبها ونرددها ونعنون بها مقالاتنا، وهى فى الأصل كلمات لبنانية صرف.وللإنصاف يجب أن نذكر أن معظم هذه التأثيرات اللبنانية جاءت من الترجمة التى يحتكرها اللبنانيون منذ فترات زمنية بعيدة.. فالكتاب المترجم هو بالضرورة قد جاءنا من لبنان أو ترجمه لبنانى، وصدر فى مكان آخر.. يحدث هذا مع لغات عديدة مثل الفرنسية، والإنجليزية، والإسبانية، ورغم أن مصر كانت تزاحم لبنان فى مجال الترجمة خصوصاً فى الهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة، واليونسكو، بحكم أن أرض الكنانة كانت أول من أنشأ كلية للترجمة فى وقت مبكر وبرعاية خاصة من رفاعة رافع الطهطاوى الذى عاش فى باريس دارساً وواعظاً ثم عاد ليحمل مشعل الترجمة والتنوير فى مصر بعد ذلك.إلا أن واقع الحال يؤكد أن المترجمين المصريين فى الهيئات الدولية قد تقلص عددهم بسبب احتكار اللبنانيين لهذا الباب فقط، ولكن أيضاً لمزاحمة أخرى أبطالها من المغاربة وشمال أفريقيا.أريد أن أقول إن الغلبة كانت للفينيقيين فتوارى -بطبيعة الحال- المصريون الفراعنة حتى أصبحوا قلة، ولذلك نشر اللبنانيون مصطلحاتهم وألفاظهم فى مئات الترجمات وآلاف الوثائق والتقارير حتى كادت تصبح مألوفة على كل الآذان والألسن. وأزعم أن كل صحفى أو كاتب فى مصر إذا اختبر كتابته من حيث أفكارها أو أسلوبها أو طريقة معالجتها لاكتشف أنه لابد وقع تحت تأثير اللبننة فى كلمة أو عبارة أو رؤية على أقل تقدير.. أقول هذا بعد أن قمت بنفسى بهذه التجربة وأحصيت عدداً من الألفاظ والكلمات اللبنانية التى تنتشر على أسنة الأقلام، بل وعلى الألسنة عبر الفضائيات.. فكلنا اليوم - مثلاً نتكلم عن جماعة "14 آذار" التى تمثل الأغلبية ولم نسمها جماعة "14 مارس"! كما نتحدث عنها ونقول إنها تمثل الموالاة.. وهى كلمة لبنانية محضة ومعناها أولئك الذين يوالون أو يتبعون حكومة السنيورة فى مقابل جماعة "8 آذار" التى تشكل المعارضة أو الأقلية.وكلنا اليوم نتحدث عن التوافق اللبنانى ولا نتحدث عن الاتفاق.. والتوافق الذى ملأ علينا الأرجاء هو مصطلح نحته اللبنانيون، وروجته الميديا فى العالم العربى. وهناك مصطلحات أو كلمات ترجمها اللبنانيون وشاعت فى الوسط الإعلامى العربى مثل كلمة ناشط التى تقال بشأن أعضاء المجتمع المدنى، وكلمة فعاليات التى تحل محل أعمال المؤتمر وأنشطته وكلمة تفعيل وتعنى تنفيذ.. هذه - بالطبع- مجرد أمثلة دلالية لأن الحصر سيكون صعباً لكثرة المفردات اللبنانية التى غزت الميديا العربية من ناحية، ولأن المقام لا يسمح من ناحية أخرى، فالمعنى المقصود هو التدليل والبرهنة على وجود ظاهرة اللبننة فى الإعلام العربى.ومعلوم أن الصحافة العربية تحديداً كانت تحكمها إلى وقت قريب مدرستان الأولى لبنانية، والثانية مصرية وكلتاهما سارت جنبا إلى جنب ردحاً من الزمن حتى انقلب الحال، وتعثرت الخطوات المصرية لتتقدم اللبنانية وحدها.ويحضرنى - على الفور- ما قام به اللبنانيون أو الشوام فى مصر، فآل تكلا هم الذين أطلقوا جريدة "الأهرام" فى مصر قبل أكثر من 130 عاماً، وجورج زيدان أطلق مجلة "الهلال"، وبعض أخواتها التى تصدر عن هذه الدار العريقة.. وكلنا يذكر المفكرين الكبيرين فرح أنطون وشبلى شميل فرسان جريدة المقطم.. لكن فى هذه المرحلة كان التمصير فى الكتابة والترجمة هو سيد الموقف، وهو حال عكس الحال الذى أتحدث عنه اليوم ... فكل المفردات الجديدة، والرائجة والمنتشرة على أسنة الأقلام لبنانية بلا منازع! والأخطر من ذلك أن مهنة الصحافة والكتابة كادت تصبح فى عصرنا الحالى - وفى زماننا الراهن - مهنة لبنانية أولاً، ثم مصرية أو خليجية بعد ذلك..فمعظم الصحف فى منطقة الخليج يديرها - فى مواقع العمل- لبنانيون، صحيح يعمل فيها مصريون، لكن بدرجة "فواعلية" ولا مكان لهم فى دوائر صنع القرار داخل الجريدة أو المجلة. وعندما أسوق ذلك فليس لتفخيم أهل لبنان، أو تقزيم أهل مصر، وإنما لإقرار حالة، يعرفها القاصى والدانى من العاملين فى هذا المجال..ومع طفرة الفضائيات أصبح هذا الحال الذى أشخصه فى الصحافة المكتوبة واقعاً مرئياً نشاهده كل صباح وكل مساء .. فالإعلاميات اللبنانيات سيطرن على الشاشة الصغيرة فى كل الدول العربية، حتى أن مصر قد استعانت ببعضهن لبعض الوقت.. والأهم أنهن بتن حاضرات حتى وهن غائبات .. أعنى أن أسلوبهن فى اللبس والماكياج، وطريقة التقديم، وقراءة النشرات والتقارير أصبحت نموذجاً تقلده الإعلاميات فى مصر والخليج، والمغرب العربى .. وضمن هذا السياق الذى لا أعنى منه ذماً أو مدحاً لأحد وإنما أعنى رصد الحالة، ألفت الانتباه إلى أن المسألة أصبحت أبعد غوراً فى الحياة السياسية والفكرية العربية، فظاهرة "اللبننة" باتت واضحة فى اختيار الموضوعات التى يعالجها الإعلام، فهذا الخبر يأتى فى المقدمة لأنه لبنانى، وذاك الحادث يأخذ هذه المساحة فى العرض والتحليل لأنه حادث لبنانى .. وهذه السيدة يتم إجراء محاورة معها على يومين أو ثلاثة أيام لا لشىء إلا لأنها لبنانية .. وهكذا وجدنا مثلاً أن قضية الاستحقاق الرئاسى فى لبنان أصبحت - بقدرة قادر- قضية القضايا، وحدث الأحداث .. فهى تكاد تلتهم معظم الأوقات المخصصة لنشرات الأخبار، أما المراسلون فى بيروت، وبين الأحزاب المختلفة وداخل القصور الرئاسية أو الحكومية أو الخاصة، فسيطروا بوجوههم ولكنتهم اللبنانية، وميولهم السياسية على الشاشات طوال سحابات النهار وحتى الهزيع الأخير من الليل.. وكأن العالم - كل العالم - قد وقفت دائرة الأحداث فيه لكى ينشر اللبنانيون أحداثهم.. فهذا الرئيس ويقصدون رئيس الدولة له رأى .. وذاك الرئيس ويقصدون رئيس الحكومة له رأى ثان وذلك الرئيس ويقصدون رئيس مجلس النواب له رأى ثالث! وهكذا وجدنا أنفسنا بين رؤساء لبنان- المعلن منهم والخفى - فى حيرة وبات الحدث اللبنانى نفطر به فى العالم العربى، ثم نتعشى به أيضاً ولا مانع أن يتسحر به الساهرون.ووسط هذا الخضم نسيت كتيبة الإعلام اللبنانى أن هناك أحداثاً خطيرة ومهمة إن لم تكن أخطر وأهم تجرى فى العالم وفى المنطقة من حولنا مثل أحداث دارفور، ومباحثات أنابوليس، وطوارئ باكستان والعنصرية ضد العرب فى فرنسا، وعودة الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا.. إلى آخر هذه الأحداث التى تؤثر على منطقتنا تأثيراً مباشراً.. ما أريد أن أقوله إن لبننة الإعلام العربى باتت حقيقة.. ولا عزاء بعد ذلك للمتشدقين بالريادة المصرية فى الإعلام والثقافة .. وكفانا أكاذيب وافتراءات!!





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة