يحرص اليسار المصرى على أن يذكرنا بكفاحه الفاشل، وليس أدل على ذلك من احتفالاته السنوية بذكرى 18 و 19 يناير سنة 1977، أو انتفاضة الخبز، والتى وصفها الرئيس الراحل أنور السادات بأنها "انتفاضة حرامية"، ورد عليه خصومه بأنها انتفاضة "شعبية".
بطبيعة الحال فأننى أضم صوتى لصّوت خصومه، منحازاً لوصفهم لها، ففى اعتقادى أنها كانت واحدة من الهبّات القليلة الجادة فى تاريخ الشعب المصرى، ضد حكامه، وهو الشعب الذى عرف واشتهر بالتسامح، والتعايش مع ظلم "أولى الأمر". وتنضم هذه الانتفاضة لثورة 19، دعك من ثورة يوليو المجيدة، فقد كانت "حركة" لنفر فى الجيش المصرى، دعت أمهات بعضهم لهم، ودعت أمهات البعض الآخر عليهم.
أما الذين دعت لهم أمهاتهم فهم الذين نالهم نصيباً من الحكم، فانتقلوا من طبقة إلى أخرى بسرعة الصاروخ، فمن المعلوم أن الحركة المباركة قضت على الملك فاروق، لتأتى بملوك، هم عدد أعضاء ما سمى بمجلس قيادة الثورة، وأنها قضت على الباشوات، وأفرزت نوعاً آخر من الأثرياء، هم السوبر باشوات، حسب وصف المؤرخ الراحل حسين مؤنس.
أما من دعت عليهم أمهاتهم، فهم الذين شاركوا فى الحركة، وكان لهم فيها قدم صدق، ولولاهم لفشلت، ومع هذا فقد ذاقوا من العذاب ألواناً وأصنافاً على يد زملائهم الثوار، وقد قيل فى هذا الصدد أن الثورات تأكل أبناءها، وقد كان!
حركة يوليو ليست "ثورة شعب"، والدليل أنها فى بيانها الأول حثت المواطنين على أن يلزموا البيوت، واعتبرت أن هذا يمثل أبلغ تأييد لها، على العكس من انتفاضة يناير سالفة الذكر، التى كانت حركة شعبية تفتقد العقل المفكر، أو الزعيم الملهم، ولهذا فشلت!
فالرئيس السادات كان فى استراحته فى أسوان يستعد للهروب للسودان، فوصله نبأ إحباط الانتفاضة، التى جمع المشاركون فيها رفضهم زيادة الأسعار، ولم يعرفوا ماذا يفعلون بعد ذلك فالثورة الفرنسية عندما قامت، أصاب ثوارها ما أصاب ثوارنا، من ارتباك، لكن وجدوا من بينهم ثائرة تشير بإصبعها: إلى الباستيل، ذلك السجن الرهيب، وكانت هذه الإشارة هى التى ضبطت بوصلة الثورة، وسبب نجاحها، فى مصر لم نجد من يشير إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون الذى كان مستعداً لإذاعة البيان رقم واحد، أو القصر الجمهورى الذى كان فى حالة استسلام كامل، وساكنه يستعد للهروب للسودان.
والمعنى أن انتفاضة يناير كانت تفتقد النخبة، أو القادة، بيد أن قادة اليسار الذين تم إلقاء القبض عليهم من بيوتهم ركبوها "على الورق"، وخرجوا من السجون ليروى كل منهم حواديت "ألف ليلة وليلة"، عن دوره فى تحريك الأحداث، وفى إثارة الجماهير، ساعدهم على ذلك أن الرئيس السادات نفسه كان على يقين من أن اليسار هو المحرض عليها، وكلامه لم يكن مبنياً على معلومات، لكنه بذلك رفع من قدرهم، ودفعهم لتصديع رؤوسنا فى كل عام.
وفى هذا العام حدث ارتفاع للأسعار بشكل مبالغ فيه، فوجدها القوم فرصة للاحتفال بشكل مغاير وبمظاهرة جديدة، دعت إليها حركة كفاية أمام مسجد السيدة زينب، فاتهم أن الزمن غير الزمن، وأن انتفاضة يناير 77 لم تدع إليها النخبة، لكن فى الواقع أنهم كذبوا حتى صدقوا أنفسهم.
حسناً، بعد هذه الواقعة قرأت عن دراسة للدكتور عبدالحليم عويس يؤكد فيها أن جثمان السيدة زينب ليس هناك، وأن المقام تم تشييده على الوهم، وربما لهذا فشلت المظاهرة فى مهدها، وقام جهاز الأمن باختطاف المتظاهرين وإلقائهم فى طريق القطامية -العين السخنة الدولى، وفى الصحراء، وفى عز برد طوبة، ولم تتدخل أم العواجز، للانتقام من خاطفيهم من أمام مسجدها، ومن داخله.
لنسلم بأن اليسار هو من قام بانتفاضة 1977، لكن ألا يعد فشلها غير المتوقع تأكيد على أنهم قوم من الفشلة، يسعون كل عام لتأكيد كفاحهم الفاشل، الذى انتهى بهم إلى فشل مركب، ولا يلدغ مواطن من فاشل مرتين؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة