إبراهيم أحمد عرفات

أمن مصر.. حديث الجغرافيا والاستراتيجيا

السبت، 01 مارس 2008 12:54 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
عندما يتم الحديث عن الأمن القومى المصرى، تتجه الأبصار والأذهان صوب الحدود الشرقية حيث الصراع العربى ـ الإسرائيلى المحتدم، ثم تعاود الاتجاه نحو الجنوب والصراعات المتفجرة فى السودان ومسألة مياه النيل.
هذه النظرة الحاكمة للعقل المصرى (الرسمى والشعبى على السواء) ربما بلورتها اعتبارات الجغرافيا والميراث التاريخى، التى شكلت شخصية مصر كما شرحها باستفاضة العالم الجغرافى (الاستراتيجى) المصرى جمال حمدان فى موسوعته "شخصية مصر".
ولكن.. إذا سلمنا لهذا الواقع الجغرافى الذى يقود العقل المصرى، فالسؤال هنا، هل تكفى هذه النظرة؟ أم أن جغرافية الموقع المصرى تفرض علينا نظرة أوسع؟ وفى كلتا الحالتين، هل إدارة القيادة المصرية لأمنها القومى تعتبر فاعلة؟ أم أنها تحتاج لمراجعة يمكن توصيفها بـ "الاستراتيجية"؟
كل هذه الأسئلة أثيرت فى ذهنى قبل كتابة هذا المقال، وجعلتنى اتنقل فى الفكر بين الجغرافيا، والاستراتيجيا حيث فن إدراة المصالح وكيفية قراءة الأحداث والتخطيط المسبق المرن للتحرك الذى يهدف إلى الحفاظ على المصالح المصرية العليا.
وللإجابة على هذه الأسئلة، سوف نلتزم أيضاً بخط الجغرافيا الحاكمة لعقليتنا وسياساتنا، باتجاهاتها المختلفة فى محاولة لإعادة قراءة الأمن القومى المصرى.
فبالنسبة للحدود الشرقية، هناك تغيرات جذرية فى القضية الفلسطينية، عبر عنها الصراع "المسلح" الداخلى بين حركتى فتح وحماس وسيطرة الأخيرة على قطاع غزة بعد أحداث يوليو 2007، والانقسام الفلسطينى بفعل السياسة والجغرافيا.
وكل منا تابع أحداث رفح الأخيرة واستئساد حماس (إذا جاز التعبير) على أمن مصر بل ومطالباتها بتسلم المعابر والحدود. كيف تحركت مصر؟ جاء التحرك المصرى مشتت بين كيفية فك الحصار على غزة، ومنع عملية عسكرية إسرائيلية واسعة داخل القطاع، ثم حاولت مصر ولا تزال تحاول إيجاد صيغة للتوفيق بين الطرفين الفلسطينيين المتصارعين المتنافرين على طول الخط ما النتيجة؟ لا شئ جديد، لماذا؟ لأن التحرك (من وجهة نظرى المتواضعة) يجب أن يكون باتجاه إيران وسوريا الداعمين الأساسيين لحركة حماس، فقواعد التفكير غير التقليدى تتطلب التحرك نحو مركز القوة وليس الأطراف، فالأمن المصرى تهدده سياسات إقليمية تسعى إلى الهيمنة وإضعاف المكانة والدور المصرى.
وبالتالى فإن التحرك لمواجهة هذا التهديد يمكن أن يتم عبر مواجهة الطرفين بنفس استراتيجيتهما، وهو ما يتطلب حضوراً وتواجداً أكثر فى منطقة الخليج ولبنان، والسياسة تحتمل وتسمح باستخدام جميع الوسائل!!!
وإذا انتقلنا إلى الجنوب، نرى هناك ملفات عدة جميعها ترتبط بالأمن المصرى، لا نركز منها إلا على ملفى مياه النيل (المحرك الأساسى لأى تحرك مصرى فى الجنوب)، والصراع فى السودان الذى بدأنا نتحرك فيه متأخراً. فى المقابل تجاهلنا كينيا، وتشاد، بل وقضايا السلم والأمن فى القارة الأفريقية، والتى تداخل فيها العوامل الاقتصادية (كالديون) بالعوامل الاجتماعية (كالفقر والأمراض) بأخرى بيئية (كالتصحر والجفاف).
كيف تحركت مصر؟ اتجهت نحو الملف السودانى لاعتبارات القرب الجغرافى، ومياه النيل للاعتبارات التاريخية، وأصبح دورها يكاد يكون معدوماً تجاه القضايا الأخرى، بالرغم من كونها أحد أعضاء مجلس السلم والأمن الأفريقى إذن، ما هو مردود هذا التحرك؟ لا شئ.. فقد بدأنا نتجه نحو السودان بعد أن اتسعت بؤر الصراع الداخلى، وسبقتنا العديد من الدول الأفريقية والدولية فى التدخل ـ وليس الدخول ـ إلى البلاد، وأصبحت مبادراتنا هناك بلا فاعلية، وليس أدل على هذا من تطاول أحد الضباط الصغار فى قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة علينا بقوله إن القوات المصرية فى دارفور "غير مرغوب فيها".
سؤال آخر لماذا تفشل السياسة المصرية دائماً فى أفريقيا؟ الإجابة ببساطة أننا نرتكن إلى ميراث تاريخى تكون وتشكل بفعل عوامل تاريخية بلورتها فترة التحرر من الاستعمار والكاريزما الناصرية إذا جاز التعبير.. وهناك سؤال آخر مهم، ما هو المردود السلبى لهذا التراجع المصرى فى أفريقيا؟ ظهرت قوى إقليمية أقل من حيث الإمكانيات من مصر استندت على دعم دولى ـ أمريكى وأوروبى وإسرائيلى ـ وأصبحت تهدد أمننا القومى، وهو ما ظهر بوضوح فى مواقف دول حوض نهر النيل من إنجاز اتفاقية جديدة لتوزيع حصص مياه النهر، بالإضافة إلى ظهور منافسين على المقعد الدائم ـ المزعوم ـ بمجلس الأمن الدولى، وبدأنا نعترف فعلياً بأفضلية دولة مثل جنوب أفريقيا فى القارة إذن ما العمل؟ الإجابة تكمن فى التحرك نحو التعاون مع القوى الإقليمية الجديدة، وإعادة التغلغل فى التنظيمات الإقليمية الأفريقية لإعادة مكتسبات الماضى. بمعنى أن مصر تتحرك وكأنها مصر الستينيات والسبعينيات التى كان لها كلمة مسموعة لدى الدول الأفريقية، وهو ما يجعل خسائرنا أكبر من مكاسبنا، خاصة أن اعتماد هذا التوجه غير مكلف اقتصادياً، وأتذكر أننا استطعنا تغيير مواقف أوغندا وكينيا من مسألة التصعيد حول بيع مياه النهر إلينا، من خلال تقديم معونة ومنح فنية لم تتجاوز المائة مليون دولار، كما أن بعضاً من المنح المصرية لأفريقيا تتم وفق برامج تعاونية بين صندوق التعاون الفنى مع أفريقيا التابع لوزارة الخارجية، وبعض المانحين الدوليين..
وأخيراً نأتى إلى الغرب حيث ليبيا، وهنا نتحدث عن توجهاتها الأفريقية الجديدة المثيرة للجدل التى تمثل تحديًا جديدًا للأمن القومى المصرى. فبعد أن تخلت طواعية عن برنامجها النووى فى عام 2003، أصبحت تتجه نحو الغرب (أمريكا وأوروبا)، فى الوقت الذى اتجهت فيه بعيدًا عن الدول العربية واتجهت نحو عمقها الأفريقى. فتوجه الجماهيرية نحو أفريقيا أخذ الطابع التنافسى لمصر، فضلاً عن دعمها للعديد من الفصائل المسلحة فى أفريقيا، فقد كانت (ومازالت) تدعم جيش تحرير السودان وبعض الفصائل فى دارفور، ناهيك عن دعمها المستمر والمتكرر لأية حركات ثورية فى القارة، تحت شعار تصدير نظام الديمقراطية الشعبية الجماهيرية!!!!
فقد بدا واضحاً مخاطر تصاعد الدور المنافس لطرابلس فى القارة الأفريقية على الأمن القومى المصري، ولاسيما فى منطقة حوض نهر النيل (ذات الأهمية الحيوية للأمن القومي)، وهو ما كشفت عنه أزمة برلمانات دول بحيرة فيكتوريا بشأن بيع المياه لمصر فى عام 2003، حيث كشفت الأحداث عن عرض ليبيا شراء المياه من هذه الدول، وهو ما دفعها لإثارة هذه القضية مرة أخرى، ناهيك عن دعمها المتواصل لقوى التوتر فى السودان وتشاد، بل وفى معظم أنحاء القارة.
السؤال الآن، كيف يمكن مواجهة هذه التهديد الليبى؟ الإجابة تكمن فى تنسيق التحرك المصرى ـ الليبى، من خلال الاستفادة من القدرات المادية الليبية فى دعم التحرك المصرى داخل أفريقيا، والدفع باتجاه إعادتها مرة أخرى إلى المنطقة العربية، وهو ما يمكن أن يتحقق فى ظل تصاعد قوى التجديد السياسى الشاب إذا جاز التعبير!!
وفى حالة عدم الاستجابة، ومن منظور الجغرافيا أيضاً تبدو هناك ضرورة لتطويق هذا التحرك من خلال إيجاد صيغة تعاونية مع دولة مثل الجزائر، التى تعرف باسم عملاق أفريقيا النائم، يمكن خلاله تحجيم الدور الليبى.
الصورة السابقة، ما هى إلا محاولة اجتهادية، وصلنا بها إلى نتيجة مهمة تشير إلى ضرورة تحرك القيادة السياسية والأجهزة المعنية نحو توظيف القدرات المصرية المختلفة لخدمة اتجاهات الأمن القومى المصرى، حيث أصبح الأمر أكثر إلحاحًا عن ذى قبل، وهو ما يتطلب بدوره إرادة سياسية تستند إلى وعى بحقيقة المخاطر والتهديدات، لإعمال معادلة الجغرافيا والاستراتيجيا السابقة!!









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة