تدهشنى كثيراًً حالة التماهى التى تعيشها المنطقة العربية مع السياسات العالمية إلى حد بات يصعب فيه الفصل بين ما هو عربى وما هو غربى. فمثلاً قبل سنوات صدر عن الكونجرس قانون يعرف بقانون محاسبة سورياً ضيق الخناق كثيراًً على هذا البلد العربى ووضع قيوداًً صارمة على تحرك السوريين داخل أمريكا، كما جمد أموالاً ولا يزال، ووصل هذا القانون إلى حد اعتبار سوريا حشرة سوداء لابد من سحقها! فى البداية كان الموقف العربى رافضاً لهذا القانون وأبدت بعض الدول العربية امتعاضها من تداعيات هذا الاستعداء الأمريكى ضد سوريا، لكن رويداً رويداً وجدنا الموقف العربى يتماهى مع الموقف الأمريكى وكأن قانون محاسبة سوريا يمتد ليغطى المنطقة العربية، شىء آخر يتعلق بسوريا وهو اتهام أمريكا لها بعرقلة الحل والاستحقاق الرئاسى فى لبنان، وكالعادة أخذت بعض الأطراف العربية موقفاً نقدياً من واشنطن، واعتبرت ذلك شكلاً من أشكال التزيد والادعاء، والتوريط، لكن رويداً رويداً وجدنا توريط معظم الدول العربية تظهر ميلاً للرؤية الأمريكية.. حتى بات الموقف العربى صورة أخرى من الموقف الأمريكى وإذا انتقلنا إلى فلسطين المحتلة، وجدنا المشهد يتكرر بحذافيره، فحماس اختارها الشعب بانتخابات أشرف عليها برلمانيون وسياسيون غربيون وأوروبيون، وصفق لها الجميع فى المنطقة العربية لأن فوز حماس تم بإرادة شعبية، وبممارسة ديمقراطية أشاد بها القاصى والدانى. لكن رويداً رويداً قلبت أمريكا وأوروبا ظهر المجن لحماس، وطالبت بالطلاق البائن، وبعد مد وجزر تحقق ذلك، ووجدت حكومة إسماعيل هنية نفسها خارج مقاعد السلطة. واتسعت دوائر الاستعداء بين الفلسطينيين وبعضهم البعض وتقارب كثيراً الخطابان العربى والأمريكى إلى حد التماهى! وفى دارفور لم يختلف الأمر كثيرا ,, ورفض العرب فى البداية المطلب الأمريكى والأوروبى بشأن نشر قوات دولية، ومع الإصرار أو بالأحرى العناد الغربى، رضخ العرب، وأصبحوا بدورهم يطالبون بالوجود العسكرى الأممى وهو نفس مطلب القوى الكبرى. السؤال الآن: إذا كان الحال يبدأ بالاعتراض ثم ينتهى بالرضوخ والتماهى ففيما إذن كل هذه الخطابات السياسية الرنانة والساخنة والتى لا مردود لها فى التحليل النهائى! ثم هناك سؤال آخر:" من يرسم سياساتنا العربية هل هم العرب أنفسهم من منطلق قناعات وثوابت لا تتزحزح ومصلحة عربية كبرى تفرض نفسها على الجميع، أم أمريكا وأوروبا اللتان قسمتا العالم العربى بمقتضى سايكس بيكو جديد ووزعت مناطق النفوذ، والسلطة فيما بينهما، وما علينا سوى الانصياع والتنفيذ. للإنصاف يجب أن نذكر أن هذه الممارسات تملأ النفس بالقنوط، وتغلق أمامنا كل أبواب الأمل فى كلمة عربية سواء نواجه بها غطرسة الغرب وهيمنته التى باتت قدرا- أو هكذا تبدو -محتوماً لا مهرب منه. وقديماً تحدثت أوساط أكاديمية غربية تتهم الحكومات العربية بأنها أكبر مستفيد من استمرار حالة الاحتقان بسبب الأزمات التى تندلع فى المنطقة، وذكرت أن الحكام العرب على وجه التحديد لا يريدون حلاً للقضية الفلسطينية، وهم أكثر المرحبين بأزمة لبنان وبأزمة السودان، وبأزمة العراق، لأنهم يستمدون من هذه الأزمات سبب وجودهم، وبقائهم فى السلطة وتذكر هذه الأوساط فى موطن اتهامها، أن الحكام العرب قد أدمنوا التصريحات بشأن حلول لا وجود لها سواء بالنسبة للقضية الفلسطينية أم بالنسبة للأوضاع المتأزمة فى لبنان. والمؤسف أن حالة التماهى التى نتحدث عنها أصبحت قاسماً مشتركاً ليس فقط بين الموقف من جميع القضايا والأزمات لكن أيضاً باتت عتبة أساسية تعدها -بالضرورة- كل الدول العربية.. حتى أصبحت السياسات العربية تسير معصوبة العينين وراء السياسات الأمريكية والأوروبية. فمثلاً اليوم خف الحديث أمريكياً عن الديمقراطية، وحرية التعبير، وإتاحة الفرصة لحركات اجتماعية وسياسية ودينية لكى تشارك سياسياً فى الحياة العامة فى المنطقة العربية.. وكلنا يذكر أن هذا الأمر كان مطلباً أمريكياً تلوكه ألسنة الأمريكيين والمتآمرين ليل نهار، وظلت واشنطن تجعله سيفاً مسلطاً على رقاب الحكام العرب ترهبهم به، ثم اختفى هذا الخطاب السياسى الأمريكى وكأنه كان فزاعة ألقت الرعب فى قلوب حكام المنطقة.. بعدها مباشرة حدثت هذه الحالة من التماهى مع سياسات الغرب. أريد أن أقول إن حالة من انعدام الثقة يعيشها العرب فهذا البلد يترصد الآخر، وذاك البلد يتوجس من الدول المجاورة وبات الهم وكأنه عربى بامتياز ونسينا أن هذه الحالة من السيولة التى يعيشها عالمنا العربى لم تظهر فجأة وإنما أعد لها وأنضجتها على نار هادئة أطراف دولية من واقع خريطة بات يدهشنا ويفجعنا -فى آن واحد- أنها لم تعد تظهر على خريطة الصراع وكأنها أصبحت فجأة برداً وسلاماً.. وتحولنا نحن العرب إلى أعداء ألداء لبعضنا البعض. إنها واحدة من تجليات الانتكاسة العربية التى أصبحت سماء تظللنا وبتنا نقرأ مفرداتها فى أحداث لبنان والعراق وفلسطين والسودان.. والبقية تأتى!