لم يعد يكفى ـ مبرراً - أن نقول - مثلاً - إن مصر ترصد تغلغل اللوبى اليهودى داخل "دواير" صنع القرار السياسى والمالى فى القارة السمراء "أفريقيا".
أو أن تقول إن اللوبى اليهودى هو الذى ضغط على الكونجرس لكى يحجز جزءاً من المعونة الأمريكية لمصر، أو أن تقول أيضاً إن اللوبى اليهودى هو الذى عبث فى البرلمان الأوروبى ودفعه لاتخاذ قرار أغضب مصر. هذه تبريرات كخيوط العنكبوت ولا أساس لها..
وفى اعتقادى أن المواطن العربى العادى يتسرب إليه الملل فى كل مرة يقرأ فيها أن اللوبى اليهودى هو الذى يقف وراء المواقف المعادية لنا فى الخارج ومنطق هو التالى: "إن إسرائيل لا تحمل لنا سوى الضغينة، ولن تنسى هزيمتها فى عام 1973 ولذلك تضمر لنا كل أنواع الشرور، وهى تستخدم جالياتها فى أوروبا وأمريكا لتجييش العالم ضدنا".. لكن ماذا فعلنا نحن فى مقابل ذلك.. لم يعد يكفى تشخيص الداء خصوصاً أن الصغير قبل الكبير وعبر جميع الأجيال يعرفه ويحفظه عن ظهر قلب"نريد دواء لهذا الداء".
وأحسب أن هذا المنطق الذى يحكم هذا المواطن هو منطق سهل واضح لا لبس فيه ولا غموض.. فإسرائيل توجه لنا - فى مصر - اتهامات لا حصر لها، فهى ترانا مقصرين فى حراسة حدودها الشرقية، وتصر على أن تنظر إلينا "كشرطى" مطلوب منه أن يحرس حدودها، ولا يسمح بمرور ذبابة من فوق الأرض أو تحتها.. وأثارت - ولا تزال - عبر قنواتها "الخفية والمعلنة" قضية ضبط الحدود فى الكونجرس الأمريكى، وفى البرلمان الأوروبى ، وتحدثت وزيرة خارجيتها فى صفاقة عن أن مصر لم تقم "بالهوم وورك" الخاص بها..
وغاب عن بال هذه السيدة - التى لم تتعلم بعد اللغة الدبلوماسية ـ أن مصر ليست شرطياً لأحد، وأن الأمن القومى المصرى ـ وليس الإسرائيلى ـ هو مسئولية مصر حكومة وشعباً، ثم هناك اتفاقية تحكم هذه الحدود ،هى اتفاقية كامب ديفيد التى تنظم الوجود العسكرى وآلياته المختلفة، ولو كانت إسرائيل تتصور أن مصر يمكن أن تشاركها فى مؤامرة قتل الفلسطينيين جوعاً.. فهذا وهم لأن لمصر التزامات وطنية وقومية، ولم يُعرف عنها لا فى القديم ولا فى الحديث أن فعلت شيئاً مشينًا كهذا ضد أى شعب عربى.
ولقد ظلت القاهرة تُعلن بأعلى صوت للقوى الإقليمية والعالمية أن أى حديث عن عنف أو إرهاب لن ينتهى إلا بانتهاء المشكلة الفلسطينية.
وسواء ادعت إسرائيل أنها انسحبت من غزة "وتوهم البعض بأن ذلك يُعتبر انتصاراً" أو أنها لا ترى ممثلاً للفلسطينيين سوى محمود عباس، إلا أن واقع الحال يؤكد أن سكان غزة فلسطينيون أيضاً، وأن المليون ونصف المليون الذين يعيشون فيها لن يقبلوا الموت جوعاً.
إن إسرائيل هى المسئولة الأولى عن إجهاض مفاوضات ما بعد أنابوليس التى ما كادت تلتئم حتى توقفت ويُخشى أن تصبح أثراً بعد عين.
إن أحداً لا يقبل أن تتحول غزة إلى سجن كبير بلا ماء أو دواء أو كهرباء، ناهيك عن الحمم التى تسقط من سمائه والدبابات التى لا تفرق بين "حجر وشجر وبشر" وهى تتجول فى شوارع وطرقات غزة.
لقد افتضح أمر أنابوليس، الذى غضب الأمريكان عندما تحفظت مصر على هذا المؤتمر قبيل انعقاده وذكرت أن اجتماعاً دولياً لم يضع لنفسه خطة أو برنامجا، ولم يتفق فيه الطرفان على القضايا العالقة بينهما.. سيكون اجتماعاً محكوما عليه بالفشل.. لكن واقع الحال أن حصاد هذا المؤتمر المزعوم ليس إلا حمماً وقذائف تسقط على الفلسطينيين فى غزة فى جوف الليل وفى الظلام الدامس. ومن قبيل ذر الرماد فى العيون انعقد فى باريس مؤتمر أطلق على نفسه مؤتمر المانحين قرر - على الورق فقط - نحو 7.3 مليار دولار للفلسطينيين.. وكان علينا أن نفرح ونقيم الأهازيج، مع أن دولارًا واحدًا لم يصل إلى الفلسطينيين حتى يومنا.
الثابت عملاً أن "أنابوليس" لم يكن إلا مؤامرة أمريكية - أوروبية الهدف منها إعطاء إسرائيل غطاء دوليًا لكى تقوم بالمجازر فى حق الشعب الفلسطينى وتمارس إبادتها الجماعية له، وهو ما يحدث حاليًا.. فالـ 85 دولة وهيئة دولية التى شاركت فى أنابوليس تبدو وكأنها قد غُرر بها، فالدماء البريئة التى تسيل فى فلسطين المحتلة قد شارك الجميع فى سفكها وليست فقط إسرائيل.
ولأن مصر قد وضعت ملاحظاتها على المؤتمر منذ البداية، ولأنها متهمة بغض الطرف عن الأنفاق، وتسريب الأسلحة إلى الفلسطينيين.. ولأنها سمحت للحجاج الفلسطينيين بالعودة إلى بلدهم من معبر رفح، ولأنها لم تشارك إسرائيل الرأى فى أن هؤلاء مجرمون وليسوا حجاجًا، ويحملون أسلحة وليس مسابح وتراتيل.. فكان لابد من التشهير بها، واستخدام اللوبى اليهودى للضغط على الكونجرس بتعليق 100 مليون دولار من المساعدات الأمريكية لمصر، والبرلمان الأوروبى لإزعاج مصر، وغاب عن بال إسرائيل واللوبى اليهودى وأعضاء الكونجرس أن هذه المساعدات الأمريكية لا تقدم لمصر من أجل سواد عيون المصريين وإنما كواحد من بنود اتفاقية كامب ديفيد.. فأمريكا التى أرادت أن تكون راعية للسلام، واحتضنت مباحثات كامب ديفيد والتزمت كطرف كما التزم الآخرون، عليها أن تفى بالتزاماتها، وبالتالى فليس من حقها أن تتحلل من هذا الالتزام الذى يحصل عليه المصريون كحق منصوص عليه فى الاتفاقية ولا يمكن اعتباره "منًا ولا سلوى"!.
ثم هناك موقف مصرى آخر أغضب أمريكا وإسرائيل ويتعلق بإيران، فالرئيس الأمريكى جاء لاستعداء المنطقة ضد طهران.. وغاب عن بال الجميع أن مصر لا تستقى مواقفها من أحد، وإنما هذه المواقف تمليها المصلحة القومية للشعب المصرى.. ناهيك عن أن زمن الحروب بالوكالة قد ولى وانتهى، كما أن الواقعة السياسية التى تعيشها مصر اليوم تجعلها شديدة العقلانية فى قراراتها، خصوصًا إذا كانت قرارات مصيرية.
صحيح أن مصر اختارت استراتيجية السلام منذ زمن، لكن هذا لا يعنى استكانة أو خنوعا من أى نوع، فالدبلوماسية المصرية لها أنياب وأظافر، كما أن جيش مصر وقواتها المسلحة على استعداد للمواجهة ودحر العدوان والقصاص لكرامة مصر، إذا ما استلزم الأمر ذلك.
يبقى أن نذكر أن هذه التعقيدات فى المشهد السياسى فى منطقة الشرق الأوسط لا يجب أن تحجب عنا ما يراه المواطن المصرى العادى من تقصير.. فاللوبى اليهودى لا يجب أن يكون شماعة نعلق عليها إحباطاتنا.. سؤاله الذى يبحث عن إجابة: ماذا فعلنا للرد على هذا اللوبى النافذ.
نريد أفعالاً لا صراخًا!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة