نفت السفارة الأمريكية فى القاهرة فى البداية أن يكون هناك ضحايا مصريون فى حادث البارجة الأمريكية "جلوبال باتريوت"، التى أطلق جنودها النار على لنش للبمبوطية فى قناة السويس، لأن إطلاق النار لا ينتهى عادة بقتل أحد، خاصة إذا كان من يطلقونه أمريكيين.
وعندما تأكد استشهاد المواطن الشاب محمد فؤاد عفيفى، أعربت البحرية الأمريكية عن أسفها.. ولك أن تتصور مدى الشرف الذى أسبغته علينا بحرية القوة الأعظم فى العالم بأن عبرت عن الأسف بمجرد قتل مواطن لا ذنب له ولا جريرة إلا أنه تصور أن مياه قناة السويس مياه إقليمية مصرية! وهناك فرق شاسع بين الأسف والاعتذار، فالاعتذار يصدر عادة عن جهة تشعر بأقل مسئولية تجاه الآخرين، خاصة عندما تقتل هؤلاء، والاعتذار يكون لأطراف تفرض احترام حدودها ومجالها وأراضيها ومواطنيها على الكافة، وأياً كانت قوتهم وأياً غطرستهم واستهتارهم.
وأقرب مثال ما فعلته الصين فى طائرة التجسس الأمريكية التى احتجزتها سلطات بكين لاختراقها المجال الجوى الصينى، وأجرت تحقيقات مع أفراد طاقمها وقامت بتفكيك الأجهزة التجسسية المركّبة على متنها. وكانت بكين واضحة: لا إعادة للطائرة الجاسوسة إلا بعد اعتذار الولايات المتحدة الأمريكية علناً ورسمياً.. وقد كان .. وقد شعرت بالمهانة عندما سقط محمد ـ ابنى وابن كل أم مصريةـ مضرجاً بدمائه فى مياه قناة السويس التى حفرها مصريون بدمائهم قبل سواعدهم، والتى خضنا فى سبيل استعادتها من براثن الاستعمار البريطانى معارك بطولية، وكلفتنا حرباً عدوانية شارك فيها الثالوث الديمقراطى "إسرائيل وبريطانيا وفرنسا".
الباخرة الأمريكية ليست حربية أى أنها لم تعلن عن "حربيتها"، مع أنها كانت تحمل نحو سبعة وعشرين ألف طن مواد عسكرية، وقد علمت بمناسبة الجريمة الأمريكية الأخيرة أن مرور السفن الحربية الأمريكية بقناة السويس يفرض قيوداً ثقيلة، حيث تغلق المنازل والمتاجر وحتى المساجد المطلة على ضفاف القناة، كما يمنع مرور أى "سمكة" مصرية أثناء عبور تلك السفن، ومنها النووى وحاملات الطائرات والقذائف والصواريخ والقنابل المشعة وتلك الذكية وصاحبتها الانشطارية، وكلها كما نرى مواد تساهم فى استقرار الأوطان وجلب الخير والسلام الأمريكى إليها.
والأمر الذى لابد أن ننتبه إليه هو أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر أنه لا قانوناً يعلو قوانينها، بل على العالم بأسره أن يخضع "للقوانين" الأمريكية، والتى هى فى جوهرها انتهاك للقوانين وللشرعية الدولية وحتى هم يعترفون بأن قوانينهم إنما هى لحماية مصالحهم، وجوانتنامو وأبو غريب وغيرهما من السجون والمعتقلات التى لم يشهد التاريخ مثيلاً لها لبشاعتها ووحشيتها "تفاصيل" لابد من غض النظر عنها، لأنها تصب فى المصلحة العليا الأمريكية! ومن بين أغرب القوانين تلك التى صدرت لجنود الاحتلال الأمريكى فى العراق وهى تمنع خضوعهم لأى محاكمات على أى جرائم يرتكبونها فى أى بلد كان.. ومن التعليمات الصادرة للجنود " إطلاق النار" على أى شخص "يشتبه" فى أنه يهدد حياة الجنود.. ووفقاً لهذه التعليمات فإن جريمة مدينة "حديثة" التى قتل فيها جنود أمريكيون نحو ثلاثين عراقياً مدنياً من أسرة واحدة لم يصدر فى مواجهة القتلة حكم يذكر، وأعتقد أنه كان "لوماً" أو السجن لبضعة أشهر تعد على أصابع اليد الواحدة!
وهذا "القتل الخطأ" يتكرر بصورة شبه يومية فى أنحاء العراق ولا يصدر بشأنه لا أسف، وطبعاً لا اعتذار، وهو نفس المنطق الإسرائيلى، والدم اليهودى دم غال والنقطة منه تساوى بحراً من دماء العرب.
إن محمد فؤاد عفيفى شاء حظه العاثر أن يكون عربياً، ومن ثم فلا اعتذار على إراقته، ولكن ماذا عن إراقة مياه وجوهنا وانتهاك سيادة أراضينا من دولة لم نر منها إلا المصائب واغتصاب حقوقنا.. مرة بالأصالة وأخرى بالوكالة على أيد حليفتها إسرائيل.. والأشد إيلاماً ألا نقر بأننا نخشاها ونرتعد من جبروتها.. بل أن يذهب حكامنا إلى اعتبارها حليفاً استراتيجياً! ولا أدرى بأمارة إيه اللهم إلا كانت مثلها مثل الخيار الاستراتيجى.
إن هذا الطغيان الأمريكى لا يمكن أن يدوم إلى الأبد، حتى لو توهمت واشنطن أن فى ضمانها للحكام الكفاية.