على مر التاريخ ظلت الواحات اسماً على مسمى ، موقعاً نائياً هادئاً يقصده الباحثون عن السكينة والراحة ..سكانه ارتضوا حياتهم البسيطة منعزلين عن صخب الحياة كأنهم فى كوكب آخر ..حتى يوم الخميس17أبريل كانوا مشغولين بحياة أخرى عبر وفود أجنبية تأتيهم من كل فج عميق قاصدين سياحة"السفارى" والاستمتاع بروح المغامرة التى توفرها طبيعة المنطقة من صخور وصحارى ورمال ..هذه الرمال الصفراء ظلوا قادرين على تحويلها إلى دولارات خضراء يواجهون بها قسوة الطبيعة وغلاء المعيشة .. علاقتهم بالمظاهرات كانت قاصرة على ما تنقله لهم شاشات الفضائيات "المغرضة " ،ارتباطهم بالسياسة ظل مقصوراً على ما يعرضه عليهم بعض أبنائهم المرتبطين بالحزب الوطنى ،بقيت الواحات من المواقع النادرة التى لم تصل إليها يد الإرهاب الأعمى ،وسطيتهم جعلتهم بمنآى عن هوس التشدد وغلو التطرف ..السلطة من جانبها كانت سعيدة بأهل الواحات الطيبين والعلاقة بينهما استمرت قائمة على أساس المثل الشعبى القائل "يا نحلة لا تقرصينى ولا عاوز منك عسل "هكذا ظلت الأمور تسير بأهل هذه البلاد عبر العصور ..لكن بعد يوم الخميس "الأسود" تحولت حياتهم إلى جحيم ،بعد أن خرجوا إلى الشوارع فى مسيرات تلقائية حاشدة ضاعف من حجمها حناجر انطلقت من منابر المساجد تدعوهم للرفض والعصيان والاحتجاج على قرار ضمهم إلى محافظة المنيا التى تبعد عنهم أكثر من 650 كيلومتر، فلا طرق مرصوفة ،اللهم مدقات تشق الجبال شقاً وسط رمال الصحراء القاحلة لا زرع فيها ولا حياة ،ولا روابط قبلية ولا تصاهر ولا يعرفون حتى أين تقع هذه البلاد ..اعتصرهم الألم وسيطرت عليهم خيبة الأمل فى سلطة تفتقد إلى أبسط قواعد الإدارة ..استدعوا ما علق فى ذاكرتهم من صور الفضائيات لمشاهد الفوضى والعصيان ..خرجت الأسر بأطفالها ونسائها إلى الشوارع والميادين ،لا يعرفون إلى من يرفعون صوتهم وإلى من يعبرون عن رفضهم لهذا القرار المجحف الذى يحول حياتهم الهادئة إلى جحيم دائم ومستقبل أولادهم إلى ظلم مستمر ..شباب غاضب ناقم عاطل لا يجد حزباً يحتويه ولا مؤسسات تستوعب طموحاته ولا عمل يمتص طاقاته دفعه اليأس إلى قطع الطريق الوحيد الذى ربطهم بالعالم الخارجى ،وعطل قطار المناجم الذى يشكل نقطة الحياة النابضة فى صحراء بلادهم ،وحرق الحدائق التى تعد المتنفس الوحيد لتغيير لون الرمال الصفراء التى تحاصر قراهم من كل اتجاه..هنا اكتشفوا الوجه الآخر للسلطة التى كشرت عن أنيابها .. انتهى شهر العسل الطويل بينهما ،وفتحت صفحة جديدة لعلاقة تغطيها الغيوم ،بعد أن كشرت السلطة عن أنيابها وأظهرت لهم وجهها الآخر ..دفعت إليهم بقوات هائلة من الأمن المركزى حاصرتهم فى قراهم ..منعت تدفق السياح ،حرمتهم من مصدر الدخل الرئيسى ،اعتقلت 40 شخصاً من بينهم أعضاء فى الحزب الوطنى نفسه خرجوا وسط الجماهير المحتجة ..أهل الواحات تجرعوا من نفس الكأس الذى سبقهم إليه أهالى مدينة المحلة ..تحولت حياتهم الهادئة الناعمة إلى عذاب مستمر ..رغم تجاوب السلطة مع مطالبهم وضمهم إلى محافظة 6 أكتوبر الجديدة ،سوف تظل انتفاضة الخميس الأسود فى الواحات علامة فارقة على أخطاء السلطة القاتلة فى حق المواطنين..إذا كان هناك ايجابية لما حدث فى التعامل مع أهل الواحات ..فإن ما حدث يحمل الإجابة على السؤال الصعب.. كيف تدار الأمور فى بر مصر ؟
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة