لم أصدق ما رواه لى صديق يعمل فى استيراد قطع غيار السيارات، حيث قرر أن يستورد فلاتر السيارات من مصنع فرنسى بالمملكة المغربية، بعد أن تبين جودتها العالية وسعرها المناسب للسوق المصرية وبناء عليه حاول الحصول على الموافقات الرسمية بالعمل وكيلاً وموزعاً للمصنع فى مصر واشترطت الرقابة على الصادرات تقديم بعض النماذج لاختبارها والتأكد من مطابقتها للمواصفات المعمول بها فى مصر .
وسافر إلى المغرب للتعاقد على استيراد شحنة ضخمة منها ثم عاد ليكون فى انتظارها فى ميناء الإسكندرية ..لكنه تلقى مكالمة تليفونية من موظف كبير فى المعامل التى تفحص المعدات المستوردة نصحه بإعادة الشحنة مرة أخرى لأن هناك اتجاهاً برفضها وإعدامها ..بعد جهود عرف أن مستورداً ومنتجاً للسيارات ذو نفوذ كبير تدخل بكل ثقله وأجهض المحاولة ويأس صديقى من البحث عن أى مخرج للمأزق دون جدوى ثم انتهى به الحال فى دبى التى أسس فيها شركة ناجحة لاستيراد نفس الفلاتر ..
تذكرت هذه القصة عندما تابعت ما تردد حول المعوقات التى واجهت محاولة شركات أوكرانية تسعى لتزويد مصر بحديد التسليح بسعر يصل إلى نصف سعره الحالى بالأسواق ،حيث ظهر من يحبط الصفقة للحفاظ على مكاسبه واستمرار احتكاره لهذه السلعة الحيوية .
ما حدث من تعطيل صفقة استيراد فلاتر السيارات، ينطبق مع صفقات الحديد الأوكرانى، كما سمعته كثيراً من مستوردين حاولوا دخول سوق استيراد القمح والسكر والزيت والأخشاب وغيرها من السلع الاستراتيجية ..هناك من يكسب الملايين وهناك أيضاً من يساعده فى الجهاز الإدارى لإعاقة أى منافسة أو مشاركته فى المكاسب المضاعفة، مؤكد أن المسئول الذى يساعد التاجر أو رجل الأعمال المحتكر يحصل على نصيبه كاملاً بينما المواطن المسكين يئن يومياً من نار الأسعار التى جعلت الناس تكلم نفسها وهم عاجزون أمام أرفف البضائع فى السوبر ماركت والمحلات ..
السؤال الذى يشغلنى حالياً هل مصر تطبق بالفعل سياسة اقتصاد السوق التى تسمح بحرية استيراد السلع ؟ الإجابة نعم ،ولا فى نفس الوقت .
فمثلاً هى بالفعل نعم تطبق سياسة اقتصاد السوق، ألغت الرقابة على الأسعار وتركت تحديدها لنظرية العرض والطلب، وبالتالى أصبحت تبرر الارتفاع الجنونى للأسعار فى الفترة الأخيرة بأن السبب هو ارتفاعها عالمياً.
ولا..لأنه بالعودة إلى حكاية فلاتر المغرب والحديد الأوكرانى يتبين أن الحكومة مازالت تسيطر على كل ما يجرى فى السوق عبر ترسانة ومنظومة من القوانين الاشتراكية التى تستطيع من خلالها السماح لمن تشاء فى احتكار سلعة بعينها أو التحكم فى تحديد سعر منتج معين سواء يتم تصنيعه فى الداخل أو يجرى استيراده من الخارج بشكل شبه احتكارى مما يعوق التجارة الحرة وعمليتى الاستيراد والتصدير ويقضى على أى منافسة نزيهة من شأنها الارتقاء بالاقتصاد المصرى ..كانت نتيجة الازدواجية الحكومية وتضارب القوانين أن هناك أسعاراً ترتفع بصورة مبالغ فيها ،وبدلاً من تدخل الحكومة لمنع الاحتكار بطريقة جدية وعملية لحماية محدودى الدخل من جشع رجال الأعمال الطماعين، نجدها تخفف آلام المواطنين بشماعة الأسعار العالمية متناسية تماماً مقارنة رواتب ودخول المصريين التى تعتبر "نكتة" إذا قارنها بنظيرتها فى الدول الأخرى كأن الحكومة تتعمد توفير الغطاء والحماية للمحتكرين وتشجعهم على الاستمرار فى "مص" دماء البسطاء الذين يمثلون غالبية المجتمع المصرى .
إذا كانت الحكومة لم يعد لها دور اجتماعى ولديها نوايا حقيقية لإلغاء الدعم، ففى هذه الحالة عليها أن تفتح أبواب الاستيراد وتكتفى بدور المنظم والمراقب لما يجرى بحياد بدون أن يكون تخليها لصالح فئة قليلة من المحتكرين الجدد الذين يحكمون سيطرتهم على أسواق وسلع استراتيجية معينة يجنون من ورائها الملايين فيزدادون ثراء، بينما الغالبية العظمى من المصريين يزدادون فقراً ويواجهون تحالف الحكومة مع المحتكرين بصبر وترقب لمصيرهم المجهول الذى تتقاذفه أمواج السلطة ونهم أصحاب الثروة بلا جدوى ولا رقيب.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة