سامح فوزى

وجـدان آخـر للشعب المصرى

الأربعاء، 30 أبريل 2008 09:09 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لى زميل كنا نجلس إلى جوار بعضنا بعضاً فى الفصل الدراسى. شاب لطيف، مرح، لم يعرف عنه يوماً تشدد أو انغلاق، فى المرحلة الجامعية رأيته مصادفة فى الشارع، هممت لمصافحته لمحت علامات التجهم الشديد على وجهه، وأسرع الخطى بعيداً عنى، تألمت بعض الشىء، لكنى لم أحتر كثيراً فى تفسير ما حدث فإن لحية الشاب الكثة كانت كفيلة بالإجابة عما حدث. يبدو أنه لم يعد يطيق مجرد مصافحة مسيحى، حتى لو كان زميلاً له لأكثر من ست سنوات. مرت السنون، وعرفت مصادفة من زميل آخر أنه فى السجن. حزنت عليه بشدة. وبعد أكثر من خمس عشرة سنة التقيت به مرة أخرى مصادفة. ابتسم فى وجهى، وعانقنى بشدة. دار الحديث عن الشباب والزواج، وارتفاع أسعار الشقق السكنية، وأهمية أن يسافر الشباب للخارج بحثاً عن عمل. تحدثناً لأكثر من نصف ساعة، لم أذكره باللقاء السابق الذى أجهض اجتماعياً، ولم يتذكره هو سنوات ذهبت سدى من عمره بلا معنى، وحرمت كلاً منا من علاقة اجتماعية إنسانية صحية.
أخطر ما تفعله الحركة الإسلامية بالشعب المصرى هو محاولة إنتاج وجدان شعبى مغاير لما تعارفت عليه الخبرة المصرية وقد صادفت بعضاً من النجاح، وواجهت بعضاً من المقاومة، بالنسبة لى لا أرى أى غضاضة أن تكون الحركة الإسلامية حاضرة فى الجسد السياسى المصرى، تقدم أطروحاتها السياسية، وتتنافس مع بقية القوى السياسية لكسب تأييد الجماهير فى إطار ديمقراطى. لا أقبل مصادرة تمارس فى حقها، وأرفض كذلك أية "إجراءات قانونية" غير عادية تمارس فى حقها، مثل المحاكم العسكرية وخلافه. من حق القوى الإسلامية أن يكون لها خيارات سياسية، ومن حقها أن تدافع عنها. لكنى أشعر بقلق حقيقى على مستقبل هذا البلد من جراء ما تقوم به الحركات الإسلامية، على اختلاف فصائلها، من محاولات مستمرة لتغيير ثقافة المجتمع، وتحويل دفة تركيبته النفسية على نحو يخل بتوازنه، ويجعله فى نهاية المطاف يسير بلا بوصلة اجتماعية.
قرأت أن هناك منشوراً تم توزيعه الأيام الماضية فى الشوارع كان يدعو الناس إلى عدم الاحتفال بشم النسيم، لأن فيه مشاركة للكفار فى أعيادهم، بالطبع المقصود بالكفار هم المسيحيون. وقرأت عشرات الآراء التى تدعو إلى عدم تهنئة المسيحيين بأعيادهم، ولاسيما عيد القيامة، لأن فى التهنئة شبهة اعتراف بصلب وقيامة المسيح، وهو ما لا يقره الإسلام. وقرأت آراء كثيرة تدعو المسلمين إلى عدم مشاركة المسيحيين فى المناسبات الاجتماعية، خاصة إذا عقدت فى الكنيسة مثل الزواج، لأن فى ذلك إعزازاً لا يستحقونه. واطلعت على فتاوى للشيخ عبد الله الخطيب، صاحب المكانة الرفيعة فى الإخوان المسلمين، تدعو إلى الاستعانة بغير المسلم فى حالات الضرورة فقط، وأن لا يبادر المسلم بإلقاء التحية على غير المسلم، لأن فى ذلك إكباراً لا يستحقه، فضلاً عن أن تكون الخادمة فى البيت المسلم "مسلمة" بالضرورة، والطبيب الذى يكشف على المرأة المسلمة مسلم بالضرورة.
خلاصة هذه الآراء هو خلق وجدان مغاير عما عرفه الشعب المصرى، بتدينه وبساطته. لم نكن نسمع- منذ ثلاثين عاماً- عن هذه الآراء، وهناك عشرات من القصص التى يرويها الناس عن العلاقات بين المسيحيين والمسلمين فى الماضى، يلعبون فى حوش الكنيسة، ويتزاملون فى مدارس الأقباط، ويحضرون مناسبات المسيحيين فى الكنائس، ويستمعون إلى آيات القرآن الكريم فى المناسبات الإسلامية. يبحثون عن حلوى المولد النبوى، مثلما ينتظرون سعف النخيل فى أحد الشعانين. حالة الإندماج التى يعيشها المصريون، مسلمون ومسيحيون، حافظت على النسيج الاجتماعى قوياً، يستوعب الأزمات، ويتغلب عليها، ويخرج منها دائماً متعظاً، متذكراً حكمة الكبار، وطريق النجاة.
لم نسمع عن مسلمين تركوا إيمانهم لأنهم كانوا مخالطين لمسيحيين، يشاركونهم أعيادهم بالتهنئة والفرحة، أو أنهم فرطوا فى عقيدتهم الإسلامية عندما بادروا شريكاً لهم فى المواطنة بالتحية، أو التهنئة فى عيد له، أو الوقوف إلى جواره فى مناسبة اجتماعية، أظن أنهم كانوا أكثر إيماناً، وفهماً للعلاقات الإسلامية المسيحية مما نفعله نحن اليوم من ترديد هذه الآراء المأزومة.
ما يطرحه فريق من الإسلاميين، ولا أنكر أن هناك بعضاً من المسيحيين لديهم مواقفهم الانعزالية الاستعلائية على المسلمين، يؤدى إلى شرخ اجتماعى بين المواطنين يسفر عن وجود فريقين متقابلين أحدهما إسلامى، والآخر مسيحى ونحن لسنا بحاجة إلى شروخ جديدة، فقد صار الجسد الاجتماعى مثخناً بالجراح الاجتماعية، يئن من الفقر والحرمان والاستبعاد، فهل يجب أن نضيف إلى ذلك جرحاً آخر دينياً يجعل الفقير المسلم يتوجس من الفقير المسيحى، والعكس صحيح رغم أن سوط الفقر يلهب ظهر كليهما، ومواجهة الفقر لن تكون إلا بتكاتفهما.
نريد المجتمع المصرى أن يسترد بساطته، والمصريون بطبعهم ليسوا من أنصار التشدد فى الحياة الاجتماعية، لماذا نريد أن نسرق البسمات القليلة من على وجوههم. ما الذى يفيد إذا قلنا لهم إن الاحتفال بشم النسيم حرام، يعنى أننا- ببساطة- نحرمهم من الانطلاق فى يوم عطلة رسمية، هل كفر المسلمون إذا خرجوا إلى الحدائق والمتنزهات؟! وما معنى تنظيم إلقاء السلام بين المختلفين فى الدين؟ هل هذا يسهم فى تطور المجتمعات أم يشدها إلى الخلاف؟
المشكلة الحقيقية أن من يرددون مثل هذه الخطابات لا يدركون أنهم يؤذون المستمع إليها، أكثر ما يتسببون فى آذى الطرف الآخر. إذا اعتمدنا على هذه الآراء، وأخذنا ما فيها، فإن معنى ذلك خلق شخصية منغلقة ومنطوية، متجهمة ومتشددة، لا تعرف بساطة الحياة، وعمق العلاقات الإنسانية، التشدد يؤذى حامله أكثر ما يؤذى الطرف الآخر. بعد فترة من الزمن يمل الشخص من التشدد لأنه ضد الفطرة الإنسانية، ويعود مجدداً إلى سابق حياته مستنكراً ما كان يفعله، لكن لا شىء بلا ثمن.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة