حمدى الحسينى

شرفة على النيل!

الإثنين، 12 مايو 2008 12:24 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى شرفة منزله المطل على نيل القاهرة اعتاد أن يستقبلنى منذ تلاقينا قبل عشر سنوات نناقش هموم بلادنا..كان يمد بصره عبر الشرفة يحلق بعيدا متأملا صفحة النيل ..شجرة التوت كانت تثير فى داخله ذكريات أوطان حرمها على نفسه تمسكاً لمبادئ لم يعد لها وجود سوى فى كتب التاريخ الصفراء. يوم شنق صدام حسين كنت حزينا وكان فرحا كنت منكسرا كان منتشيا، سيطرت على مشاعر اليأس والهزيمة بينما اعتبر واقعة الشنق خيط النور الذى يشق عتمة الظلام ..هكذا كانت هناك تباينات بينى وبينه فى بداية أى نقاش لكن قبل أن أودعه نكون التقينا فى منتصف الطريق ..كلانا يؤمن بالديمقراطية ويعادى الدكتاتورية ويحلم بالحرية .

فى ميناء بورتوفيق وقفت سفينة فرنسية قبل حوالى 60 عاما فى طريقها إلى جنوب فرنسا عبر المتوسط، أغلب ركاب السفينة كانوا من الفرنسيين باستثناء 42 فردا هم عائلة المجاهد المغربى عبد الكريم الخطابى ..كان من بين أبنائه طفل صغير لم يتجاوز عمره عشرة أعوام، لاحظ الطفل أحداثا غريبة تجرى من حوله ورجالا يصعدون على ظهر السفينة ثم يهبطون ..والده كان يخاطبهم مرة باللغة العربية بعصبية ومرة أخرى بالأسبانية والفرنسية، أخيرا هبط الطفل بصحبة جميع أفراد الأسرة إلى القاهرة وبالتحديد فى منطقة حدائق القبة, بعد أن وافق الملك فاروق على اختطاف الخطابى من السفينة الفرنسية التى كانت تنقله من منفاه فى جزيرة "رينيون" إحدى المستعمرات الفرنسية على الساحل الشرقى لأفريقيا إلى منفى جديد فى جنوب فرنسا ..نشأ الشاب وترعرع فى القاهرة ثم أصبح فيما بعد المفكر سعيد عبد الكريم الخطابى أحد أبرز أبناء المناضل المغربى الكبير..

على مدار حوالى عشر سنوات داومت خلالها على الجلوس إلى المفكر سعيد الخطابى، كنت خلالها استمتع بالاستماع إلى رؤاه فى مختلف القضايا والهموم المصرية والعربية. عيناه كانت تملؤها الدموع وهو يتحدث عن ربط قرار العودة إلى مسقط رأسه بمدى تحقق حلم والده بوطن مستقل يتمتع أهله بثالوث العدالة والحرية والمساواة.

قبل أيام اتصلت أسأل عنه، فوجئت بسكرتيره يبلغنى بنبأ الوفاة ..كانت صدمة لم أتمالك نفسى عند سماعها ..كنا على موعد لاستكمال نقاشنا الذى لا ينتهى ..كان يروى لى فى كل مرة عن ذكريات طفولته أثناء سنوات المنفى فى تلك المستعمرة الفرنسية النائية القريبة من سواحل مدغشقر وحرص والده على أن يربى أطفاله على القيم الإسلامية السمحة وتعليمهم بنفسه المبادئ الإسلامية واللغة العربية. كان الراحل الكريم يتجنب الرد على تفسير لسؤالى الملح: متى ينتقل رفاة المناضل الكبير إلى منطقة الريف المغربى ؟..فى أحد المرات سألته بوضوح عن علاقة والده بالقصر الملكى، كان رده أن والده كان ينتظر الوقت الذى يعود فيه إلى مسقط رأسه مثل أى إنسان يحن إلى تراب الوطن ..ظل يؤجل القرار أملا فى أن يتحقق حلمه البسيط ..أوصى الخطابى الأب أن يدفن فى مصر ..كما توقعت فقد قرر الخطابى الابن أن يدفن بجوار والده أيضا حتى يتحقق الحلم الذى مازال بعيد المنال ..

الراحل سعيد الخطابى يصنف ضمن المفكرين العرب المستنيرين الذين يؤمنون بأن روح الإسلام وما يحمله من منظومة قيم إنسانية وأخلاقية لو فهمها المسلمون فهما دقيقا واستلهموا روحها فى ممارساتهم اليومية تكون هى مفتاح لحل كافة المشكلات التى يواجهها العالم العربى، سواء فى الماضى أو الحاضر أو المستقبل. فقد كان يرى أن الإنسان العربى يحتاج إلى التحرر من القيود والدكتاتوريات التى تلتف حول عنقه فتكبله وتعوقه عن الانتقال من حياة العبودية إلى الحرية .

لأسباب عديدة فإن كثيرا من الأجيال الحالية فى مصر وغيرها من العواصم العربية لا تعرف الكثير عن هذا المفكر المبدع ولا عن أمجاد والده المجاهد الكبير وبطولاته ضد الاحتلال الأسبانى لبلاده مطلع القرن العشرين وقيادته لجيش من أبناء الريف المغربى المتطوعين رغم بدائية تسليحهم وقلة عددهم إلا أن روح الكفاح وإرادة التحدى كانت سبيلهم فى إلحاق الهزائم بالمحتل الذى كان يحاربهم بأحدث الأسلحة، بما فيها الطائرات التى لم يكن أهل الريف يسمعون عنها فى ذلك الوقت . ويبقى السؤال: هل يظل حلم آل الخطابى فى وطن حر ديمقراطى يمتلك إرادته بعيد المنال؟ وهل يأتى يوما تستريح فيه أرواحهم فى رقدتها؟ متى تنتقل عدوى التمسك بالمبادئ من آل الخطابى إلى باقى شعوبنا العربية؟









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة