وحدها المصادفة هى التى قادتنى إلى حضور هذه الندوة التى شارك فيها عدد من طلاب جامعة المنصورة من مختلف التخصصات، وكان موضوعها الكاتب الكبير أنيس منصور ابن المنصورة النجيب، والمتحدث عنها "كمدينة" فى جميع المناسبات، فهى تملأ وجدانياته منذ كان طفلاً صغيراً يرتدى البنطلون القصير ويلهو - لهواً بريئاً - فى شوارعها فيما كان قلب أمه ينخلع عليه قلقا.
سعدت باللقاء الذى احتضنته إحدى المكتبات الحديثة، لكن هالنى الأمر فى البداية عندما انطلق الحاضرون من قناعة مؤداها أنه يتعين علينا فى مصر هتك عرض المُسلّمات والفرضيات التى تتوارثها الأجيال "جيلاً عبد جيل"، فأنيس منصور كاتب فحل لا يشُق له غبار، حقق فى دنيا الصحافة والأدب، والكتابة والتأليف "نجومية" لا يضاهيه فيها أحد، وكادت شهرته - خصوصاً فى زمن الرئيس السادات - تطبق الآفاق، ويعتبره الكثيرون صاحب مدرسة فى الكتابة الصحفية، وفن كتابة العمود تحديداً. وقد بدأ حياته مترجماً فوضع عدداً من المسرحيات التى قدمت بعضها على خشبة المسرح فى مصر، وطاف العالم ووضع كتبا تسجل مشاهداته وانطباعاته، والتقى بعدد لا بأس به من رجالات الفكر والسياسة فى العالم.
اعترف المشاركون فى الندوة - وهم كما أسلفت من طلاب الجامعة - بما هو أكثر من ذلك لكنهم أرادوا أن يحاكموا الكاتب الكبير ابن المنصورة ومن منطلق أنهم سئموا الطريقة التى نتعامل بها مع كتابنا وكبار مفكرينا" لا نتذكرهم إلا بعد رحيلهم بكلمات فارغة مليئة بالمجاملات تفوح منها رائحة اذكروا محاسن موتاكم!
ولأن اسم وحجم وثقل أنيس منصور الأدبى والصحفى والفكرى يتجاوز هذه الرطانات "حياً أو ميتاً" فلماذا لا نتحدث عنه فيما بيننا إذا تعذر أن نتحدث عنه مع الآخرين. وأشهد أننى - بعد لحظات - استحسنت الفكرة، لكننى - وأنا المحُب لقلم وفكر أنيس منصور - رأيت أن دورى كمستمع سيكون أفضل ألف مرة من دورى كمشارك فى الحوار، على الأقل لكى لا أجهض الفكرة أو أغيّر مسارها إذا ما تدخلت.
وقد يكون مُفيداً أن أسجل ما يلى:
إن أنيس منصور قد جنى على أبناء الدقهلية جناية لا تغتفر فهو المتحدث دائماً عن البعض واصفاً إياهم "ببلدياته" ويقصد بهم الدقهلاوية أو أبناء المنصورة، وقد حذا حذوه الكثيرون فى المحافظات الأخرى فأدى ذلك إلى شيئين، الأول أن كره الناس أبناء الدقهلية أو على الأقل بدأوا ينظرون إليهم شذراً من شدة الضيق والتبرم!
الثانى أن عمق الشعور بالإقليمية إذ بدأ الآخرون من الكُتّاب يتحدثون عن بلدياتهم من المنوفية أو الغربية، أو الأسايطة والدمايطة "نسبة إلى أسيوط ودمياط" وهلم جرا.. وقال المتحدثون فى الندوة إن أنيس منصور لم يُضف شيئا للدقهلية فهو فى الجامعة مثلاً لا وجود له، وفى الشارع إنه مجرد كاتب مثل آخرين.
ثم إنه بدأ يكرر ما كتبه فى عمود "مواقف"، ففى أقل من عام أعاد نشر عشرات الأعمدة.. لذلك تفوق عليه عمود "من قريب" - فى الأهرام - للكاتب الكبير سلامة أحمد سلامة - ناهيك عن أن أعمدة الأستاذ أنيس تدور حول نفسه وذكرياته مع أمه وأصدقائه.. أما أعمدة الأستاذ سلامة فهى تدور حول قضايا المجتمع والناس والسياسة وهن تُذّكر بأعمدة الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين.
وقال طلاب جامعة المنصورة إن أنيس منصور يُطلق على نفسه فيلسوف الفقراء مع أنه يعيش فى شقة فاخرة على النيل، ولم يقرص الفقر معدته يوماً.. فوالده كان مهندساً زراعياً مرموقاً، وكان يعيش فى بحبوحة يحسده عليها أبناء جيله والأجيال اللاحقة له. ثم كانت كراهيته للزعيم جمال عبدالناصر هى المدخل لقلب الرئيس السادات الذى اصطفاه وقربه إلى نفسه وقلبه وأنشأ "مجلة أكتوبر" من أجل سواد عيونه وثمناً للسهرات التى كان يسب فيها الناصرية، ويتندر فيها على عبدالناصر!
كما كان أنيس محظوظاً عندما أرسله "الأخوان" مصطفى وعلى أمين ليتجول حول العالم ثم يكتب أسبوعياً - فى الأخبار - انطباعاته "مشاهداً وناقدا ومعُلقا".. وهى فرصة لو أتيحت لعشرة صحفيين لامتلأت سماء مصر بالنجوم فى دنيا الكتابة والإبداع والفكر.
وانتقدت الندوة مؤلفات أنيس منصور، ووقفت طويلاً أمام ما سمته "تغييب" شباب الأمة بكتاباته عن الهابطين من السماء والأطباق الطائرة، والأشباح، والشعوذات والضرائب. وأخيراً ما أحزن أبناء الدقهلية أنه أغمض عينيه عن تجاوزات كثيرة للمحافظ السابق سعيد صوّان مقابل أن أقام له تمثالاً قذفه الأولاد بالطوب فى شارع الثانوية، فنقله بالقرب من شاطئ النيل وكانوا يتمنون أن يقيموه من أموالهم "حباً" فى أنيس منصور وليس "تملقاً" له.
باختصار: كانت ندوة صادمة إلا أنها - رغم كل التحفظات التى يمكن أن تسجل عليها واعترافنا بمكانة أنيس منصور كاتبا ومفكراـ تعتبر بداية لكسر التابوهات "المحرمات" ومناقشة المُسَلمات والبديهيات المتوارثة.. وهى فى نفس الوقت تدشن مرحلة جديدة لمحاكمة عقل الأمة المصرية، ليتنا نتبنى فكرة طلاب المنصورة، وننتقل بها بين قامات الفكر والثقافة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة