فى ساعات قليلة وقعت بيروت فى يد مقاتلى حزب الله، الذين لم يشهروا السلاح فى وجه إسرائيل، ولكن فى وجه أبناء وطنهم، تحت ذريعة أن الموالاة عملاء للأمريكيين والإسرائيليين، وهو نفس المنطق الذى بررت به فى السابق حركة "حماس" الاستيلاء على غزة. والملفت أن كليهما، أى حزب الله وحماس، لم يفعلا شيئاً يذكر فى تحرير الأرض العربية من الاحتلال الإسرائيلى، بل على العكس، آلت كل تحركاتهما إلى تدمير مقدرات الشعبين الفلسطينى واللبنانى. وفى الوقت الذى وقعت فيه حصون "محمد دحلان" فى غزة، تداعى تيار المستقبل فى حالة درامية، حيث لم يجد سعد الحريرى إلى جواره سوى بيانات الشجب.
وبعد موقعة نهر البارد التى دحرت فيها التيارات السلفية التى كانت من الممكن أن تكون إلى جواره، بقى الرجل وحيدا، يعيش وهم السقوط الكامل. حزب الله فعل ذلك ليس بسبب قوته، وضعف الآخرين، ولكن بسبب أنه التيار الوحيد الذى يمتلك "ميليشيا" مسلحة، معترفا بها، فى حين أن التيارات والأحزاب الأخرى لا تمتلك قدرات عسكرية مثله، على الأقل علنا. نحن نتحدث عن دولة مصغرة، وليس حزبا سياسيا بالمعنى الحديث.
فى عام 2007م، إبان التفجيرات التى كانت تقض مضجع اللبنانيين من الإشرافية إلى فردان، مرورا بجونيه، تصادف أن كنت فى بيروت، ورغم التحذيرات بالبقاء فى الفندق خرجت ذات مساء مع صديق لى أستاذ جامعى شيعى، ينتقد حزب الله، من منطلقات ثقافية وسياسية عميقة. ذهبنا إلى إحدى الكافيتريات فى المنطقة الجنوبية ذات الكثافة الشيعية. سألته سؤالا بدا ساذجا: ما الضمان أنه لن تحدث هنا عمليات مثل وسط، وشمال بيروت؟ قال لي: إن مخابرات حزب الله يا صديقى أقوى من مخابرات الدولة اللبنانية. كل ذلك بفضل الدعم الإيرانى، حيث لا تقيم إيران علاقات سوى مع حزب الله.
حزب الله وكيل إقليمى يلعب دوره المرسوم بمهارة شديدة، فهو صاحب خيار الحرب، والتصعيد، وإغلاق المؤسسات السياسية، يتعامل على أنه دولة لبنانية موازية، ينشط فى أجواء المواجهة الأمريكية الإيرانية، وسوف يتوارى- حتما- إذا حدث توافق بين واشنطن وطهران. وهناك من يقول إن لديه أسلحة لم يستخدمها بعد، قادرة على إصابة إسرائيل فى العمق. وهو يشعر بأن اغتيال عماد مغنية ضربة قاصمة تستدعى الرد، ولكن كيف؟ لا يستطيع حزب الله – على ما يبدو- أن يطول المصالح الإسرائيلية فى الخارج خشية أن يتسبب ذلك فى إحكام الحصار الدولى عليه.
ولا يستطيع التصرف بشكل عشوائى مفتوح مع إسرائيل يزيد جراح لبنان، على نحو ما جرى فى صيف عام 2006م، خاصة وهو يرى إسرائيل تغير "التكتيك" من خلال استهداف القيادات، التى تمسك بالعصب الحساس للعمليات العسكرية، وهو نفس السيناريو التى تتبعه مع حماس، بصورة أو بأخرى. حتى الآن لا أحد يعرف من اغتال مغنية، لكن الإدانة الجاهزة عادة من نصيب إسرائيل، ربما لأن الرجل أوجعها كثيرا. ولكن لماذا فرحت تل أبيب، ولم تفاخر بإعلان مسئوليتها عن العملية؟ سؤال بلا جواب.
تحرك حزب الله على هذا النحو فى شوارع بيروت الأيام الماضية يثبت أن الثأر لقائده العسكرى عماد مغنية سوف يكون فى بيروت ذاتها، فى شوارعها، وبين علاقات القوة مع تياراتها الأساسية. ساعده على ذلك أن بيروت ذاتها باتت- عمليا- مقسمة مثل أى منطقة لبنانية. فى الشهرين الماضيين زرت لبنان مرتين. شعرت فى كليهما أن شبح التقسيم واضح فى بيروت، وإن ظل اللبنانيون يتندرون على الفراغ الرئاسى.
شوارع منطقة الحمرا، القلب الثقافى والتجارى لبيروت، وهى منطقة سنية فى غالبها، مكتظة بصور سعد الحريرى بكثافة، وإلى جوارها صور للعماد ميشيل سليمان، المرشح لرئاسة الجمهورية، تتصدرها عبارة (لا للفراغ الدستورى). فى غضون دقائق معدودات تكون فى منطقة "سوليدير"، قرب أجهزة ومؤسسات الحكم تجد خيام المعارضين المدعومين من حزب الله بكثافة. وبعد دقائق أخرى تجد نفسك فى الضاحية الجنوبية لبيروت حيث تغطى صور حسن نصر الله الشوارع، وترتفع أعلام حزب الله فى كل مكان، وصور عماد مغنية، والوعد والوعيد بالمعركة القادمة، والنصر المحقق بإذن الله.
كان قرار اللجوء إلى الجيش صائبا، لأنه القوة الوحيدة على الساحة التى لم يجر زجها فى المواجهات الطائفية. والجيش قوامه الأساسى من الشيعة والمسيحيين. فى هذه الحالة تتوارى أجهزة الأمن العادية، التى قوامها الأساسى من السنة، خشية أن يكون تدخلها سببا فى سخونة الأحداث، بدلا من تهدئتها. لبنان بلد يقوم على التوافق، وحزب الله يريد أن يلتهم الكيان اللبنانى بأكمله. تحول من حزب إلى قوة مسلحة مصغرة ثم إلى دولة مصغرة، وأخيرا يريد أن يكون دولة كبرى. السكوت على ما يفعله هو إهدار كامل لتراث الدولة الحديثة، التى لا تعرف سوى الاحتكام إلى المؤسسات الدستورية. لا يجب تبرير استخدام القوة العسكرية فى غير موضعها.
الإسلاميون اليوم أمام اختبار صعب. بعضهم تحرك بدافع سنى فى الهجوم على حزب الله، وبعضهم اختار الصمت، وبعضهم انحاز مع حزب الله من منطلق إسلاميته السياسية والقتالية. هل يمكن أن يكون خيار البعض هو تبرير عملية انقلابية لبنانية مثلما جرى تبرير انقلاب غزة؟ أتمنى ألا يفعلوا ذلك هذه المرة، ليس وعيا بالصراع السنى الشيعى، ولكن انحيازا لقيم الدولة المدنية الحديثة، ولبنان كان الأقرب لها فى المنطقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة