كل يوم تقريباً تطالعنا أنباء استياء إسرائيل أو أمريكا، ليس للافتراء عليها أو اختلاق أحداث ينسبها الإعلام "غير المتوازن" إليهما، بل لأن هذا الإعلام تناول أفعالها فى كل من فلسطين والعراق.. فإسرائيل قتلت منذ أيام أربعة أطفال وأمهم أثناء تناولهم " الإفطار الأخير" وملأت مشاهد جثثهم البريئة شاشات التلفيزيونات لكن بعضها مصحوباً بأسف!! إسرائيل وكأنها لا تفعل ذات الشىء منذ ما يقرب من ستين عاماً.
وترى تل أبيب فى نشر الوقائع وليس التحليلات موقفاً عدائياً ومغرضاً وحتى إذا وصف أحد مسئوليها ما يحدث فى غزة بأنه "محرقة" قررت إسرائيل ارتكابها لوقف إرهاب حركة حماس فإنه لا يحق لكائن من كان استخدام ذات الوصف لأن إسرائيل فوق النقد وحتى فوق اللوم أو العتاب وهو ما جعل مندوبها ينسحب من مؤتمر تناول فيه ممثل إحدى الدول العربية ما يحصل فى غزة بوصفها المحرقة .
نفس الشىء تفعله إدارة الرئيس الأمريكى جورج بوش، حيث يثور سيد البيت الأبيض إذا انتقد أحد ما قامت به قوات الاحتلال الأمريكى فى سجن أبو غريب العراق والذى لم يدانها فى وحشيته وانحطاطه أبشع الدكتاتوريات ولا تزال هذه القوات تواصل حصد أرواح أطفال ونساء وشيوخ العراق فى مساكنهم بقذائف صاروخية يومياً وتنتظر من الإعلام أن يهلل لعزمها الذى لا يلين فى مكافحة الإرهاب واعتبار ضحايا أخطاء قواتها لزوم الشىء، وويل لمن يشير إلى الدماء التى تغرق الطرقات فى المدن العراقية مادام بوش قد أصدر فرمانه الشهير بتحويل العراق إلى واحة للديمقراطية والسعاة والاستقرار..!
كما مطلوب من الإعلام ترديد ما يعلن بوش تارة وأولمرت تارة أخرى بأن عودة الجولان إلى سوريا سيحولها إلى قاعدة إيرانية؟ ولا يحق لأى إعلامى أن يسأل لماذا لم تعد إسرائيل الجولان وبقية الأراضى المحتلة عندما كانت إيران تحت حكم الشاه الذى كان من أقرب حلفاء واشنطن وتل أبيب ؟ ونفس الشىء ينطبق على غزة التى يرى الإسرائيليون فى فك حصارها وتركها فى حالها مكمن الخطر لأنها أيضاً ستتحول إلى قاعدة إيرانية .
وما فعلوه بالرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات ماثل فى الأذهان خاصة أن انتهاك جميع الاتفاقيات التى عقدوها مع أبو عمار وحصاره لنحو ثلاث سنوات فى غرفة مكتبه برام الله كان من أبرز العوامل التى ساهمت فى تقوية حماس وكلما قرأت عن ثورة بوش وأركان إدارته أو أولمرت ورجاله كلما تناول الإعلام ما يقومون به فعلاً عادت إلى ذاكرتى واقعة جرت فى أوائل التسعينيات وعقب سطوة الآلة الإعلامية الأمريكية ومعها طبعاً الإسرائيلية على "مصادر" الأخبار والتحكم فى معالجة الخبر لإفراغه من مضمون ولىّ عنق الحقائق.
بحيث غدا "الإعلام" تفصيلاً على مقاس سياسات محددة واستراتيجيات بعينها ومطامع قريبة وبعيدة المدى، استدعانى مدير عام الإذاعة التى كنت أعمل بها فى الخارج وسألنى عن خبر أذعته يتعلق بجرائم إسرائيلية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة خرجت من مكتبه دقائق لأعود بالبرقية التى تحمل الخبر موضوع المناقشة.. التزم الصمت لكننى سألته سيادة المدير.. هل حدث وغيبت أنا موقفاً إسرائيلياً؟ أجاب بالنفى استطردت فى أسئلتى هل قمت يوماً بتشويه تصريح إسرائيلى قال لا، فوصلت إلى سؤالى الأهم وحتى أفهم ماذا يريد إعلام العولمة من الصحفيين هل ألقت إسرائيل مؤخراً الورود على جنوب لبنان وأنا لكونى مصرية عربية مغرضة ادعيت أنها ألقت قنابل مسمارية محرمة دولياً وفق اتفاقيات جنيف؟
امتقع وجه المدير الذى قرر بينه وبين نفسه أننى من "الإعلاميين" الذين لا يدركون أن الدنيا قد تغيرت وأننا فى عصر القرن الأمريكى القادم وملحقه الإسرائيلى فقرر التخلص منى فى أقرب فرصة.. غير أن ما لا يفهم الراغبون فى إعلام حسب الطلب والحاجة أنهم يصطدمون بالحقائق والوقائع فهل مهما بلغ "إعلامى" من الانحطاط يمكن أن يقول عن جثث أطفال غزة أنها لإرهابيين؟
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة